الموضوع: مقال
عرض مشاركة مفردة
  #4  
قديم 08-11-2002, 02:29 AM
محمد ب محمد ب غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2001
المشاركات: 1,169
إفتراضي

لا يمكن أن نتوقع طبعاً أن تدخل دراسة يقوم بنشرها البنك الدولي <<درجة التبعية السياسية>> مثلاً، كمؤشر من مؤشرات <<الحرية أو كفاءة الحكم>> أو <<التمثيل والمساءلة>> أو <<استقلال الإعلام>>. وأقصد بالتبعية السياسية مدى تبعية الإرادة السياسية في بلد ما لقوة خارجية، مع أن مثل هذه التبعية السياسية لابد أن تؤثر في كل هذه الأمور جميعاً.. تقلل من قدر <<الحرية>> المتاح، ومن كفاءة الحكم في تحقيق مصالح المواطنين، ولابد من أن تضعف من درجة تمثيل الحكومة لهؤلاء المواطنين، وتجعل هذه الحكومة <<مسؤولة>> أمام جهات خارجية أكثر مما هى مسؤولة أمام مواطنيها، كما أنها لا بد أن تضعف أيضاً من درجة استقلال الإعلام إزاء هذه القوة الخارجية وشركاتها. كذلك، أفلا تؤثر هذه التبعية السياسية، متى وجدت، في درجة حرية المواطن العربي مثلاً في التعبير عن تضامنه مع إخوانه في العراق مثلاً أو مع السودان؟ بل ألا تؤثر حتى على حرية انتقال المواطن العربي بين بلد عربي وآخر؟
لا يمكن أن يكون مثل هذا قد دخل في الحساب أو أُخذ في الاعتبار في إحدى الدراستين (كوفمان وآخرون) اللتين قام بنشرهما البنك الدولي، إذ لا يمكن أن يهتم كوفمان أو البنك الدولي بمثل هذه الأمور التي تهم المنطقة العربية أكثر من غيرها.
مما يثير الشك أيضاً في فهم واضعي التقرير لموضوع الحرية والديمقراطية أن التقرير يساير الموضة الشائعة (ولكن المشكوك جداً في صحتها) في أن هناك موجة من الديمقراطية تكتسح العالم الآن، ولكن لم يلحق بها للأسف العالم العربي. فالتقرير يشكو من أن رياح الديمقراطية التى هبت على <<معظم بلاد أميركا اللاتينية وشرق آسيا في الثمانينيات وأوائل التسعينيات لم تصل إلى البلدان العربية بعد (ص2). فهل أدخل واضعو التقرير في حسابهم يا ترى انتشار الدعارة في أوروبا الشرقية بعد سقوط الشيوعية، وهل اعتبروا ذلك دليلاً على زيادة الحرية أم نقصانها؟ وهل أخذوا في اعتبارهم الموجة المكارثية الأخيرة في أميركا في أعقاب 11 سبتمبر 2001، وهل اعتبروها دليلاً على زيادة الحرية أم نقصانها؟
الحقيقة التى يبدو أنها غابت تماماً عن واضعي التقرير هي أن ما يسمى بالتنمية الإنسانية ليس له مقياس واحد صالح للتطبيق في مختلف الثقافات، بل لا بد من تطبيق مقاييس مختلفة لأن اختلاف القيم يؤدي إلى اختلاف مصادر الرفاهية ومصادر الاعتداء عليها، بل يؤدي إلى اختلاف مصادر الشعور بالكرامة الإنسانية ومصادر إهدارها. إن شيئاً قد يبدو واحداً، وكأن من الممكن الاتفاق عليه، (كزيادة تمكين المرأة أو توسيع قدراتها) له صور عديدة بتعدد الثقافات، كما أن لقهر المرأة والتضييق عليها صوراً عديدة بتعدد الثقافات أيضاً.
المرأة قد تشعر بالقهر لصعوبة حصولها على الطلاق في بعض الثقافات، ولكنها قد تشعر بالقهر في ثقافات أخرى بسبب السهولة التى يجري بها الطلاق وتشتيت جمع الأسرة. المرأة قد تُقهر في بعض الثقافات بسبب إجبارها على ارتداء ملابس لا تريد ارتداءها، لكنها قد تُقهر في ثقافات أخرى لتعريضها لخلع ملابسها بأكثر مما ترغب فيه.
لهذا السبب قال عالم أنثروبولوجي مرة إن التعريف الذي يفضله للتنمية هو <<زيادة قدرة المجتمع على تحقيق القيم التي يؤمن بها هذا المجتمع>>. أما هذا التقرير الذي نحن بصدده الآن، فإنه لا يترك لدى قارئه أي شك في ماهية المعايير التي يستخدمها للتقدم والتأخر الإنساني، وماهية القيم التي يعتبرها دون غيرها جديرة بالتحقق والاحترام. إنها ليست إلا المعايير والقيم التي يرضى عنها برنامج الأمم المتحدة للإنماء.
وهذا هو ما يجعل هذا التقرير مثالاً صارخاً للتغريب والاغتراب معاً، وهو مثال يصيب المرء منا بخيبة أمل مضاعفة لأن الأمر لا يتعلق هنا بمجرد <<نمو اقتصادي>>، أي زيادة حجم السلع والخدمات، بل بشيء أعظم وأهم وهو ما يسمى <<بالتنمية الإنسانية>> الذي يفترض أن يتسع للاهتمام بالقيم والثقافة وآدمية الإنسان.
بقيت ملاحظتان ختاميتان:
الأولى: تتعلق بتفسير صدور التقرير بكل هذه النقائص رغم كثرة الأسماء المرموقة التى وردت في مطلع التقرير باعتبارها أسماء <<المشاركين في إعداد التقرير>>، إما كأعضاء في <<الفريق الاستشاري>> أو <<الفريق الرئيسي>> أو باعتبارهم <<مؤلفين مشاركين>> أي <<معدي الأوراق الخلفية>> أو من <<فريق القراء>> (وهى ترجمة للفظ إنكليزي معناه هنا من يطلب إليه قراءة التقرير بعد الانتهاء من وضعه لإبداء ملاحظات عليه بغرض تقويمه وإصلاح عيوبه).
والتفسير الذي أقدمه لهذا اللغز هو أن المعتاد في كتابة مثل هذه البحوث المعدة بتكليف من هيئة دولية أن تترك درجة عالية من الحرية للمؤلفين الرئيسيين، أو للمؤلف الرئيسي ومعاونيه المباشرين، في الأخذ أو عدم الأخذ بما يجري إبداؤه من ملاحظات، وكذلك في تحديد حجم الإفادة من الأوراق الخلفية. وكثيراً ما يحدث ألا تستخدم هذه الأوراق الخلفية على الإطلاق، فيبقى الموقف الأيديولوجي (والسياسي) في النهاية ليتحدد طبقاً لقرار المؤلف الرئيسي ومعاونيه المباشرين، ناهيك بالطبع عن المسؤولين الكبار الذين قاموا باختيار المؤلف الرئيسي ابتداءً، ولا بد من أن يقروا التقرير ويرضوا عنه في صورته النهائية قبل أن يسمحوا بإصداره. الخلاصة إذن أن من الممكن أن تظهر الصورة النهائية للتقرير في شكل يفاجأ به كثيرون من هؤلاء <<المشاركين>> المرموقين مثلما فوجئنا نحن بالضبط.
والملاحظة الثانية والأهم، هي أن كل ما عبّرت عنه في هذا المقال لا يعني رفض تقديم أي نقد أو اتهام للعرب، أفراداً أو مؤسسات أو حكومات. وإنما العبرة هي بالهدف من النقد والاتهام كما يتبدى من لهجة النقد وطريقة الاتهام، وهل يصب هذا النقد وذلك الاتهام في نفس الوعاء الذي لا يكف المعادون لنهضة العرب والمسلمين عن ملئه. إن عيوبنا كثيرة وأخطاءنا عديدة، وأوجه التقصير من جانبنا لا نهاية لها، وفي كل ميدان من الميادين. ولكن الاعتراف بكل هذا شيء، وترديد الاتهامات بالحق والباطل بهدف الإذلال والإضعاف و<<تمكين>> الأجنبي منا، شيء مختلف تماماً.
نحن نريد بالطبع أن ينهض العرب إنسانيّاً ولكن على أن يكون هذا بطريقتنا وطبقاً لقيمنا الخاصة. نعم نحن نحتاج إلى نشر المعرفة، ولكن معايير التقدم في هذا المجال كثيرة وليس أهمها استخدام الإنترنت والحاسوب.
نعم نحن نحتاج إلى رفع شأن المرأة، ولكن ليس بالضرورة بزيادة عدد أصوات النساء في مجالس نيابية لا تمثل أحداً، لا النساء ولا الرجال ولا حتى الأطفال.
نعم نحن نحتاج إلى الارتفاع بالمستوى التعليمي، ولكن رفع مستوى تعليم اللغة العربية لا يقل أهمية عن رفع مستوى تعليم الإنكليزية أو الفرنسية، وهناك مقاييس لقياس مستوى التعليم والمعرفة أفضل بكثير من ذلك المقياس الذي ذرف واضعو التقرير من أجله الكثير من الدموع، وهو عدد الكتب المترجمة إلى العربية من الإنكليزية والفرنسية.
نعم، نحن نريد حريات أكثر، ولكن ليس بالضرورة حرية الاختيار بين خمسين قناة تلفزيونية تذيع كلها نفس الكلام الفارغ وتقوم كلها بعملية مستمرة من غسيل المخ.
(ينشر بترتيب مع <<الكتب وجهات نظر>>
الرد مع إقتباس