الموضوع: قصة قصيرة
عرض مشاركة مفردة
  #6  
قديم 11-11-2002, 02:33 AM
قارون قارون غير متصل
القوس
 
تاريخ التّسجيل: Jul 2002
المشاركات: 139
إفتراضي وهذي احتياط لو ما صلحت الاولى

" مـملـكـة الـغـضب "

علي السباعي

ليل أيار مبهم بعتمته التي أحرقتها نيران صغيرة تضيء منذ الأزل ، مثل شعلات أولمبية موزعة في ميدان واسع ، عيناه طائران أبيضان يحلقان اشتياقا في الفضاء . فجأة ! أنقطع التيار الكهربائي عن المدينة . ألقت السماء عباءتها عن رأسها فوق أكتاف الأرض ، أصبحت المدينة كبدوية تتشح بالسواد تبكي زوجها الميت ، صدح بصوت مسموع كمن يشاهد الجبال كلها تنهار فوق رأسه : ــ

ــ يا ألهي ! ما هذا ؟ ياله من نجم غريب ؟!

نجم عملاق بذنب كبير ، يجري كفرس شهباء في بيداء السماء ، مخلفا وراءه سحابة ضوء أبيض ، عن يساره كان القمر قرصا أحمر كالدم يتكئ بخدر فوق وسادة مرصعة بالنجوم ، شعر بالضياع ، تارة في دروب معتمة ، في دهاليز العبث ، شرعت أسراب غربان القلق تنعب في رأسه أفكار مشوشة ، وشوش لنفسه قائلا : ــ

ــ ظهور النجم المذنب يجلب معه الموت .

بقيت عيناه العسليتان تحلقان بجناحين من عسل في ريح تلهث كوحوش تمتد زفراتها بعيدا محركة السكون ، فتولد النسمة العذبة تزيح الأسى من النفوس ، خطفة صراخ فتاة تطلب النجدة .

رمى جلبات الموت عنه ، تصاعد الدم إلى صدغية ، تجاسر ضاربا رجلا أبيض كالقطن . . طويلا بعينين حدقاتهما زرقاوين طويلتين كعيون القطط ، كان يراود الفتاة عن نفسها ، أكال له لكمات قوية ، هرب ذو العيون القططيه الزرق ، فشكرته الفتاة ذات الثلاثة والعشرين ربيعا ، بصوت يزقزق كالعصافير : ــ

ــ شكرا لصنيعك هذا . . يالك من شهم .

أطلقت تنهيده ، جعلت العرق يتفصد من جبينه باردا ، ثم استطردت تقول : ــ ــ كنت أحسب الدنيا قد خلت منها المروءة !

كان كلامها كنبضات موسيقى ـ تقلب أوراق الروح ، لتخلط نوته الثقة سلمها الموسيقي جعل الليل يطوي دروب السماء الإسفلتية العريضة ، لملم الظلام نفسه متكورا كطفل يظم ساقية ويديه من شدة البرد ، قال لها بصوت متهدج : ــ

ــ كنتِ على وهم ؟

أجابته بتلقائية : ــ نعم !



برقت عيناها الشهلاوان الكبيرتان بوميض ناري لمعرفتها بخفايا الحياة ، سطعت عيونها بنيران مجوسية ، قال هامسا : نحن مخدوعون !

يشع النجم المذنب بتمزيقه الظلام ، تتساقط قطع من سماء إسفلتية تتشوه بانغماسها في ضوء ذنبه البراق ، صرخت به بحده ، كلماتها كسمكه قفزت على صفحة النهر بقوة : ــ ــ أنتم يا معشر الرجال مخدوعون .

تأملها بوجهٍ غلفته موجة ضباب جلبتها كلماتها القاسية ، لوح بيديه حائراً أن : لا يعلم !

أنحدر شهاب لامع يرجم الظلمة خلفها ، تصدع في جسمها إيقاع الحان التمرد ، أنطلق بعقلة لحن مشاغب يحرك شفتيه بكلمات الوداع ، قائلا : إلى اللقاء . كطائرٍ خطاف ، جاءته كلماتها : ــ أكمل جميلك ، أوصلني إلى المنزل .



* * *



قصر مضيء على شكل مسجد ، يعتمر قبعتهً من مصابيح كاشفةٍ تنير اثنتي عَشَرةَ قبةً خضراء ، يلف القصر حوله شال أضواء فضيةٍ تضفي علية قدسيةٍ تفيض بريقاً تزدحم شموسه لتصنع شمسا سرمدية تنوس بها أثنتا عًشَرةَ منارةً بزخارفها السيراميكية الخضراء ، تلصف في هدأة الليل الآياري شرعت تنهش رأسه ديدان عدم التصديق أن : ــ استيقظوا يا مخلوقي العالم . . !

عند بوابة القصر وقفت فتاة حارسة كأنها فسفور يحترق ، داهمته وساوس الخوف تتعثر في صدره ، قال لها : ــ

ــ ها ــ قد وصلت منزلكم ، لم يعد وجودي ضروريا ؟

ألهبتها كلماته ، تساءلت بحنو دافئ : ــ

ــ أسمعت يوما بمضيف يطرد ضيفه ؟

أبتسم بوجهها مستسلما ، فاخترقت السكون ضحكتها الرنانة ، انتشرت تزيح ظلمات وثنيه امتدت معها ألسنه الأضواء تلعق أشجار التوت ، أنتسى التوت الأحمر بدغدغة نسمات باردة ، بثت فيه الثقة بمحدثته ، قال : ــ كلا .

أشارت بيدها أن يلج بوابة القصر ، اكتفى بابتسامة ساذجة أظهرت غمازتيه ، دخلا سوية ممرا طويلا جدرانه مغلفة برخام أبيض تزينه زخارف أندلسية ، أفضى بهما الممر إلى قاعة تسبح على جدرانها بقع الضوء المتوهجة ، تضيء لوحات نساء شقراوات عاريات ، فيبارك نور المصابيح لوحات لطيور حب بمناقير ذهبية ، ببغاوات بذيول حريرية ، غزلان بقرون عاجية ، أرانب بيض بعيون زمرديه . اجتازا القاعة نحو قاعة جانبية جدرانها مغطاة برخام أسود ، سقفها تزينه فسيفساء غاية بالروعة ، يلتمع أمام زواياها الأربعة مباخر نحاسية لامعة ، تنفث بخورا يضوع برائحة العنبر ، بغتة ، تحولت الفتاة إلى لهب أشقر سرعان ما استوى إلى فتاة ، يشتعل جسدها العاري لهيبا غمر القاعة نورا ، تراجع مذعورا ، أرتعد ، اصطكت أسنانه ببعضها ، دخلتا عليهما فتاتان ناريتان عاريتان ، أراد أن يصرخ ، فمه مفغور ، فأغمض عينية المذهولتين من شدة إشعاعات أجسادهن الفتية ، فاحت رائحة بخور طيبة ، مشين ثلاثتهن نحوه ، راحت مهاميز ذهبية مربوطة بأرجلهن تحتك بالأرض فتطلق شظايا نارية حارقة ، رفع يده اليمنى أمام عينية يتلافى حدة الضوء ، هتفت به إحداهن : ــ

ــ أعلمت كم أنتم مخدوعون معشر الرجال ؟

تصاعدت دوامات البخور تحتضن ضفائر النور بحنين مفرط ، أحس بأن قلبه سيتوقف ، كف عن الحركة ، تساءل مذهولا : ــ من أنتن ؟

أجابته إحداهن : ــ نحن الموت . . . !

تساءل مبهوتا : ــ ماذا ؟

قالت إحداهن باستخفاف : ــ عندما يظهر النجم المذنب نحل معه جلبات الموت للبشر !!!

تحدث مستنكرا كلامها : ــ

ــ لكن البشر يموتون بالجملة كل يوم . . بل بالساعات . . فما دخلكن بذلك . . . أنتن كاذبات .

جلجلت ضحكاتهن الهازئة ترج القاعة ، تكلمت فتاته : ــ

ــ أنك تخاف كل شيء ـ تخاف الموت ، نفسك ، وتخافنا .

كلماتها كبقايا خطوات حديديا يصطك وسط القاعة : ــ

ــ نحن جيل الخوف يا هذه . . . بذار نساء الرعب . . . أيام الخوف رضعتنا . . . وأصابع الشقاء الحديدية فطمتنا . . يا جالبات الموت . . أسمعت . . قاطعته الأخرى بغضب :

ــ أصمت . لن يجديك ذلك نفعا ، لابد من موتك .

حدق فيهن بنظرة شفقة ، وقال بهدوء : ــ

الموت راحة لبائس وتستطعين لو عجلت بموتي-

عقبت فتاته : ــ يا هذا . نحن لسنا بشرا .

لم يجبها ، تكلمت صاحبة الضفائر النارية بصوت صداح : ــ

ــ إذن . سنصنع معروفا بقتلك .

زكم أنفه رائحة فمها الشيطانية ، أجابها : ــ

ــ بالتأكيد !

همست بأذنه : ــ

ــ ستموت . . أنت الآن في مملكة الضجيعة ، برحاب الفناء . لا حياة لك !

مط شفتيه ، قال بثقة : ــ

ــ لقد عشت أزمنة الخوف ، البؤس ، الغربة ، وما أجمل أن أعيش لحظات الموت .

اقتربت صاحبه الفم الشيطاني ، لتقول بمرارة : ــ

ــ أنك تحيى بالأوهام . فهي زادكم يا بشر .

أجابها بنبرة ساخرة : ــ

ــ أنتن الوهم بعينه !

صفعته بعنف ، بينما الاخريتان سحبنه من ياقته نحو باب جانبي أفضى بهن وسط قاعة مملوءة بالجثث الممزقة ، تخدرت حواسه ، اضمحلت الأشياء مندفعة نحو ظلمات مجهولة ، مزقن ملابسة / أضحى عاريا مذهولا وسطهن كرجل يدخل حمام نساء عارٍ ، غطى بيده عورته ، تدافعت ضحكاتهن الماجنة تخنق ثقته بنفسه ، أمست كل فتاة برجليه ، مددوه فوق مصطبة مرمرية بلون الجمر ، طلت أمام عينية جمجمة معلقة بالسقف ، أشارت ناحيتها إحدى الفتيات ، قائلة : ــ

ــ أنها جمجمة الحلاج .

حينما شاهدها ، شعر بأن لحياته قيمة ، لأول مرة يتمسك بالحياة . . . فجر بداخلة إحساس سيطر على تفكيره راح يكبر . . . يكبر . . . ليسع العالم بأسرة ، هتف صارخا : ــ

ــ عجلن بالموت . عجلن .

سحبن مهاميزهن بعنف ، راحت المهاميز تحرث جسده ، أحدثت فيه شقوقا عميقة غير مرتبة ، عزفت سمفونية . العذاب الأبدية . ألحانها الراسخة بالروح : قابيل يذبح هابيل ــ الحلاج يصرخ ما في جبتي إلا الله ، وهو كلام نذور يدور ضالا بأفلاك سديميه ن تدفق دمه راقصا مخضبا سواقي الجسد المحروث ، ترافقه نفثات بخار ممزوجة بالدم ! هجم الألم يلتهمه ، زعق بقوة : ــ

ــ يا الله ! نجني من هذا العذاب .

صعقت الفتيات ، لذكر كلمة الله ، وبينما دمه يتعثر متخبطا بسواق حرثت حديثا ، تذكر جدته لأمه إذا ما أصابها بأس ، تقرأ آيه الكرسي ، أرتجف قلبه خاشعا ، بصوت مسموع رددها ، والفتيات يمزقن جسده حانقات / مازال يتلو الآية الكريمة ، وصل إلى قولة تعالى : / ولا يؤده حفظهما / .

ارتجفوا. خبت نارهم . كررها ثانية . ولا يؤده حفظهما ، ثالثة تلاها ، ندت عنهن صرخات وحشية . رابعة أعادها . ارتعشوا رعبا . انكمشت أجسادهم النارية . خفتت نارهم . تصاعدت أبخرة رصاصية تخنق أنفاسه ، غص جو الغرفة بسحب دخان كثيفة تقبر موجات الضوء الشابة ، للمرة الثامنة والسبعين أعادها على مسامعهم ، تحولوا إلى رماد رصاصي ثقيل ، ترتفع منه أبخرة زنخه تلهث فوق صدر فجيعتهم ، أغفى وهو يكررها . / ولا يؤده حفظهما / .



* * *

لا شئ سوى الصمت ، وهذا الزمن العنكبوتي الوقح ، عقاربه تطوي الزمن بهدوء ، وببطء متناه تلف نسيجها اللزج حولنا ، تحاول قنصنا . أبدا . . . جمجمة الحلاج في مركز شبكة العنكبوت . . .
الرد مع إقتباس