التسامح الأخلاقي
وفي مجال الأخلاقيات يدعو الإسلام للتعافي والتصالح والعلاقة القائمة على الاحترام المتبادل والمحبة والوئام والثقة يقول تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون * يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم * يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير)(22).
ويرفض الإسلام التطرف حتى في المشاعر أو معايير الحب والكره فيقول الإمام علي (عليه السلام): (هلك فيّ اثنان محب غال ومبغض قال).
وبرغم النشأة الغربية لمفهوم التسامح نلحظ أن نهج التسامح نهج إسلامي أصيل وله جذوره القرآنية والتاريخية برغم أنه لم يكن تحت عناوين التسامح، يقول عالم الاجتماع البارز كلود ليفي سترواس في ككتابه مدارات حزينة (باريس 195): (إن الإسلام هو الذي ابتكر التسامح في الشرق الأوسط والحق بنا بدل أن نتحدث عن التسامح أن نقول أن هذا التسامح ضمن حدود وجوده هو بمثابة انتصار دائم للمسلمين على أنفسهم فقد وضعهم النبي - حينما أوصاهم به - في وضع حد للأزمة الدائمة التي قد تنجم عن التناقض بين الدعوة العالمية للتنزيل وبين التسليم بتعدد العقائد الدينية)(23).
ولسنا في صدد إثبات أقدمية التسامح في الإسلام، إنما من أجل إبعاد الحساسية التي أبداها بعض مفكري عصر النهضة من غربة الفكرة واستيرادها.
من أيهما تنبع الأصالة؟
إذا كان التطرف خرقاً للعادة، فإن التسامح ملازم لكينونتنا البشرية وطبيعتنا الإنسانية التي خلقنا وجبلنا عليها.
فالقابلية البشرية تؤكد أننا جميعاً قد نخطئ وعلينا أن لا نتكل على ما يبدو لأعيننا وكأنه كل الحقيقة والإيمان المطلق، من هنا كان علينا أن نكون مستعدين للاعتراف بأخطائنا واكتشافها وأن نطمح دائماً للوصول إلى أقرب نقطة من الحقيقة والصدق وما يقول فولتير: (إننا جميعاً من نتاج الضعف كلنا هشون ميالون للخطأ. لذا دعونا نسامح بعضنا البعض ونتسامح مع جنون بعضنا البعض بشكل متبادل وذلكم هو المبدأ الأول لحقوق الإنسان كافة)(24).
من هنا نحن مطالبون - من أجل تأصيل التسامح - إلى تجسيد ثمة معطيات رئيسية في التعامل والتكامل مع الآخرين:
1- أن نصغي للآخرين أياً كانوا بدافع التعلم منهم لا احترامهم فحسب، خاصة خصومنا وأندادنا. ونعني بالإصغاء ملاحقة وملاحظة قيمهم وفكرهم وطرق تفكيرهم والأسس الفكرية التي انطلقوا منها في تدعيم رأيهم وفكرهم ومنطقهم. والإصغاء هو النظر بعمق لما يقوله دون اعتبار لشخصه أو مثالبه أو اعتباراته الشخصية وصدق الحديث الشريف إذ يقول: (خذ الحكمة ولو من الكلب العقور)، (خذ الحكمة من أفواه المجانين) أو كما جاء في الأثر: لا تنظر إلى من قال وانظر إلى ما قيل).
إن تعلم فن الإصغاء إلى الآخرين يعني ببساطة أننا راغبون في الدنو نحو الحقيقة واكتشاف أفضل أسلوب للعمل، والحكمة الإنجليزية تقول: (قد أكون أنا على خطأ وقد تكون أنت على صواب ونحن عبر تفاهمنا حول الأمور بشكل عقلاني قد نصل إلى تصحيح بعض أخطائنا وربما نصل معاً إلى مكان أقرب إلى الحقيقة أو إلى العمل بطريقة صائبة).
إن التسامح في مسيرة الفكر وحرية التعبير دون مصادرة أو قمع الآخر يوفر مناخاً مناسباً لتلاقح الأفكار وتطورها من خلال النقد البناء والحوار الهادف مما يخلق مزيداً من التطور والإبداع في الفكرة.
يقول كارل بوبر: (إن تحقق تقدم حقيقي في ميدان العلوم يبدو مستحيلاً من دون تسامح، من دون إحساسنا الأكيد أن بإمكاننا أن نذيع أفكارنا علناً، من هنا فالتسامح والتفاني في سبيل الحقيقة هما اثنان من المبادئ الأخلاقية المهمة التي تؤسس للعلوم من جهة وتسير بها العلوم من جهة أخرى)(25).
2- كما أننا مطالبون بتوفير الأجواء المناسبة للتسامح وأهمها جعل القيمة ذات مضمون حياتي في مختلف مشارب تعاملاتنا، وأولها تأصيلها في الأسرة الصغيرة وتشذيب سلوكياتنا بمزيد من التسامح. إن البيئة التي يعيش فيها الطفل يجب تهذيبها لمنع كل المثيرات التي تؤثر على حياة تحفز مسببات العنف، فنحن في الواقع مطالبون بتكريس التعايش في مناهجنا ومدارسنا والتركيز المستمر لنمو أبنائنا وأجيالنا على التسامح.
(إننا في حاجة ماسة إلى مراجعة مناهجنا الدراسية وإلى استئصال الخطابات الإنشائية الوطنية الساذجة وألا نشجع نمو مشاعر العزل العنصري بين الأطفال من جنسيته وجنسية أخرى. كما أننا يجب أن نحثهم على تفهم الثقافات الأخرى وتذوق ما فيها من قيم جمالية وأخلاقية، فالتسامح في حقيقته تربية مستمرة، فمشاعر ضبط النفس وقبول الآخر والإدراك بأننا نعيش في عالم واحد تشترك فيه الأفكار المختلفة وتتعايش فيه الأعراق والجنسيات جنياً إلى جنب هو نوع من التسامي فوق المطامع والمصالح الضيفة. إن التسامح يقضي بأن نرى مصالحنا في إطار مصالح الآخرين)(26).
إننا نلحظ للأسف علاقات أسرية قائمة على الاستبداد، حيث يندر قيام روح ديمقراطية متسامحة بين الأب والأبناء، إذ يمارس الأب دور المتسلط باعتباره الممول الرئيسي، فيما نجد علاقة الزوج بزوجته قائمة على التبعية لا الندية حيث تكون المرأة دائماً الجانب الأدنى، كما نلحظ بوضوح الاستبداد المعاصر الذي يتم في سلوكيات غريبة تجاه الطبقات المتدنية في مجتمعاتنا من مثيل الأقليات أو الفئات المهمشة والمعدمة.
فيما تسيطر روح استبدادية في العلاقات بين الأفراد، ولعل في المثل السائد: (أكبر منك يوم أخبر منك بسنة) دليلاً واضحاً على هذه الروح إذ لا عبرة للموقع الثقافي أو العلمي الذي يحتله الإنسان الأصغر سناً.
إن على عاتق الأسرة العربية أن تعلم أطفالها مناقشة الأمور العائلية كما يجب تعليم الأولاد داخل الأسرة أهمية الحوار وقبول الرأي الآخر مهما يكن مخالفاً له سواء كان دينياً أو اجتماعياً أو عرفياً، ولعل ما يؤسف له أن التعليم في مجتمعنا العربي لا يشجع على الحوار، فالمدرس نادراً ما يتحاور مع طلبته بل يريد منه تلقي المعلومات المقررة في المنهج كما لا يقبل منهم النقد، فيما الأب يريد من سلطته الأبوية أن تهيمن على كل صغيرة وكبيرة في الأسرة والحاكم لا يقبل بغير 99.99% من أصوات المقترعين فهل في ظل هذه الأجواء ينمو حس النقد!!
لذا فإن تكريس التسامح لا بد أن يغلغل في كل مفردات حوارنا وجنبات حياتنا والعمل على قبول الآخر في مختلف أبعاد مسيرة نهضتنا.
3- إننا مطالبون أيضاً بالكف عن ممارسة السلطة أو استخدام القوة في التدخل بآراء الآخرين وأعمالهم ونشاطهم وأساليب تحركهم وطرق تفكيرهم، نعم بإمكاننا التنبيه على المزالق التي يقعون بها أو كشف من يخل بالالتزامات الأخلاقية للتسامح أو يتجاوز قواعدها الأساسية بطريقة مشينة، ولكن لا يحق لنا أن نتدخل بآرائهم وأعمالهم وإن كنا لا نوافق عليها عقيدياً أو فكرياً أو أخلاقياً.
وهنا ينبري جدل واسع حول مفهوم الهيبة والمكنة والقدسية التي تحضى بها معتقداتنا وأفكارنا، فالكثير من الإسلاميين يرون في احترام التشريعات الإسلامية ووجوب تطبيقها ينطلق من باعث ديني وعقيدي يفرض على الآخرين تنفيذه ولو بواسطة القانون، وفي هذا السبيل يسبغون على مجمل الأوامر والنواهي الشرعية وكذلك المعتقدات والطقوس هالة القدسية وعدم جواز خدشها.
ولعل أبرز ملامح هذا الجدل ما يحدث في بعض الدول الإسلامية من دعوات لتطبيق الشريعة الإسلامية بطريقة قانونية محضة أو العمل على إصدار قوانين لمنع الممارسات الشاذة في المجتمع دون اعتبار لما يمثله ذلك من ممارسة لحدود السلطة وحدود التسامح والحقوق الإنسانية ودون اعتبار لما يمكن أن تحدثه مثل هذه القوانين من خرق في المبادئ الإسلامية وتشريعاتها قد يتسع، وحينها لا يمكن فتقه.
إن التسامح لا بد أن يعلمنا لجم سلطتنا وكبح جماح القوة، من أجل إقناع الآخرين بالمنطق للوصول للحقيقة دون الحاجة إلى سيف ونطع وعصى وهراوات!! ولعل أروع شاهد على ما نقول عندما دخل النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) مكة فاتحاً دفع علياً ليحمل الراية ويصرخ (اليوم يوم المرحمة اليوم تصان الحرمة) حينما كان يحملها صحابياً آخر ويصرخ: اليوم يوم الملحمة اليوم تسبى الحرمة. كما عفا (صلى الله عليه وآله) عن كل المجرمين وقادة الحرب في قريش ولم يعاقب على جريرة خلال سنوات الدعوى إطلاقاً حتى أضحى محمداً (صلى الله عليه وآله) تهواه القلوب وتعشقه الأفئدة ولو على مشارف القسطنطينية...
أما قال قولته الشهيرة (اذهبوا فأنتم الطلقاء) لكل من ناصبه العداء حتى عفا عن وحشي قاتل عمه الحمزة، وهبار قاتل ابنته زينب (عليه السلام). كما جعل الراية لأبي سفيان وأرسله مع كتيبة إلى غزوة حنين وأعطى له تلك العطية الجزيلة ليبرهن على روح التسامح وتأثيرها في الواقع السياسي.
4- وفوق كل ذلك فنحن مطالبون بتكريس التسامح في الحياة السياسية ففي ظل التعدد في التركيبة التنظيمية والحركية والفئوية في مجتمعاتنا، فإنه لا بد من تقبل قيام أي أقلية أو طائفة أو تنظيم سياسي أو ديني تشكيل حزب سياسي يمثله والقيام بالترويج لأفكاره وإن كان مناهضاً لأطروحاتنا، فليس لنا الحق بادعاء امتلاك الحقيقة السياسية ومصادرة رأي الآخرين. كما أن التسامح في الحياة السياسية يتطلب ممارستنا للعمل السياسي بشيء من النقاء والتشذيب والابتعاد عن المهاترات والدس والمكر والخداع، إذ أن هذه الممارسات تكون مدفوعة بدافع الانتقام أو إسقاط العدو المخالف لأفكاري وعقيدتي.
والمهم أيضاً أن نكرس أدبيات التسامح السياسي في صفوف المناصرين والجماهير حتى نصل لمرحلة قبول انضمام أعضاء من أبناء الأقليات الأخرى للحزب الإسلامي دون أي شعور بالحرج.
إضافة إلى ذلك فإنه من الضرورة بمكان تكريس المشاركة السياسية للأقليات وتطبيق مبدأ (لهم ما لنا وعليه ما علينا) وتجذير مبادئ حقوق الإنسان والمساواة وحفظ كرامة الإنسان ضمن نطاق الدولة المدنية الحديثة، وهذا سيفتح المجال على مصراعيه لتحقيق ما يمكن أن نطلق عليه (بالشراكة الحضارية) المتمثلة في السعي المشترك بين كافة الديانات والطوائف لبناء حضارة الغد وتحقيق ازدهاره.
يذكر التاريخ أن الأشعث بن قيس الكندي بنى في داره مئذنة فكان يرقى إليها إذا سمع الأذان في أوقات الصلاة في مسجد جامع الكوفة - وكان الولي آنذاك علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهو المؤذن - فيصيح الأشعث من أعلى مئذنته: يا رجل إنك كاذب ساحر!! ولم يأذن الإمام لأحد أن يتعرض له بسوء(27).
__________________
وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (المائدة:83)
|