مواصلة للموضوع
وهناك رأي آخر، وهو أنه يجوز إخراج القيمة عن الأعيان، للحاجة أو المصلحة..
وفي هذا قال ابن تيمية رحمه الله:
" وَأَمَّا إخْرَاجُ الْقِيمَةِ لِلْحَاجَةِ أَوْ الْمَصْلَحَةِ. .. فَلاَ بَأْسَ بِهِ : مِثْلُ أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَ بُسْتَانِهِ أَوْ زَرْعِهِ بِدَرَاهِمَ، فَهُنَا إخْرَاجُ عُشْرِ الدَّرَاهِمِ يُجْزِئُهُ وَلا يُكَلَّفُ أَنْ يَشْتَرِيَ ثَمَرًا أَوْ حِنْطَةً، إذْ كَانَ قَدْ سَاوَى الْفُقَرَاءَ بِنَفْسِهِ" وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ . ....
وَمِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَحِقُّونَ لِلزَّكَاةِ طَلَبُوا مِنْهُ إعْطَاءَ الْقِيمَةِ، لِكَوْنِهَا أَنْفَعَ فَيُعْطِيهِمْ إيَّاهَا، أَوْ يَرَى السَّاعِي أَنَّ أَخْذَهَا أَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ، كَمَا نُقِلَ عَنْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لأَهْلِ الْيَمَنِ: " ائْتُونِي بِخَمِيصِ أَوْ لَبِيسٍ أَسْهَلُ عَلَيْكُمْ، وَخَيْرٌ لِمَنْ فِي الْمَدِينَةِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَار" وَهَذَا قَدْ قِيلَ إنَّهُ قَالَهُ فِي الزَّكَاةِ وَقِيلَ: فِي الْجِزْيَةِ" [مجموع الفتاوى(25/82)].
وهذه النصوص التي ذكرناها عن العلماء، وإن كان غالبها في الزكاة عامة، فإن زكاة الفطر داخلة في هذا المعنى العام.
و الرأي الذي ذكره ابن تيمية، من الأمر يعود إلى المصلحة والحاجة، هو الراجح إن شاء الله، لثلاثة أمور:
الأمر الأول:
حاجة مخرج الزكاة إلى إخراج القيمة، لصعوبة حصوله على أحد الأصناف المذكورة في الأحاديث، والذي يظهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم، نص على الأعيان المذكورة، لكونها كانت أيسر على الأغنياء من القِيَم.
الأمر الثاني:
أن إخراج الزكاة – ومنها زكاة الفطر - ليس تعبدياً محضاً، بل لها معنى معقولاً، وهو إغناء الفقراء والمساكين، والإغناء يحصل بالعين ويحصل بالقيمة...
الأمر الثالث:
أن إخراج القيمة قد يكون أكثر نفعاً و مصلحة من إخراج العين، وهذا واضح في عصرنا هذا في غالب البلدان، لأن الفقير يستفيد من القيمة أكثر من استفادته من الأطعمة، حيث يستطيع أن يوفر حاجاته بالقيمة مباشرة، مثل ملابسه وملابس أسرته، وأجرة منزله، بدون خسارة..
بخلاف ما إذا أعطي الأطعمة، فإنه قد يضطر إلى بيع ما يحتاج منها، للحصول إلى النقود، والغالب أنه يبيعه بأقل من قيمته بكثير.
وغالب الأحكام الشرعية مبنية على الحكم والمصالح، كما قال ابن القيم رحمه الله:
"فصل في تغير الفتوى واختلافها، بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد، .... فإن الشريعة مبناها وأساسها، على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ومصالح كلها وحكمة كلها" [إعلام الموقعين عن رب العالمين (3/3)].
وهل يجوز نقل زكاة الفطر من بلد إلى بلد؟
روى ابن عباس رضي الله عنهما:
"ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما بعث معاذاً رضي الله عنه على اليمن، قال: ( إنك تقدم على قوم أهل كتاب..) الحديث - إلى أن قال – ( فإذا فعلوا فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة من أموالهم، وترد على فقرائهم...) [البخاري، رقم (1389) ومسلم، رقم (19)].
ذكر الإمام النووي أن الضمير في قوله ( فترد على فقرائهم ) يحتمل أن يعود إلى فقراء المسلمين أينما كانوا، ويحتمل أن يراد به فقراء أهل بلد الزكاة، وأن الاحتمال الثاني أظهر. [شرح النووي على صحيح مسلم (1/198)]
[COLOR= crimson]وبناء على هذا الاحتمال، يكون الأصل صرف الزكاة على فقراء أهل البلد، ولا تنقل الزكاة إلى بلد آخر، إلا إذا فاضت عن أهل البلد الذي تخرج فيه.[/color]
إلا أن الواجب مراعاة أحوال المسلمين، في بلد الزكاة وفي البلدان الأخرى، فإذا علم أن فقراء بلد الزكاة عندهم ما يسد بعض حاجتهم، والمسلمون في بلد آخر لا يجدون ما يأكلون من الطعام وما يلبسون من الثياب، وما يسكنون من البيوت، فإن الواجب نقل ما يحفظ حياتهم من الزكاة، ولا يجوز تركهم يموتون من الجوع والبرد والحر...
ومن أظهر الأمثلة في عصرنا ما نشاهده في الأرض المباركة "فلسطين" التي يخرج اليهود فيها من بيوتهم، بل يهدمونها على رؤوس بعضهم، فلا يجد من بقي حياً، مأوى يسكنه، ولا طعاماً يأكله، ولا ثوباً يستره، ولا دواء يستشفي به.
لقد كثر أيتامهم، وكثرت أراملهم، وكثر مرضاهم، وكثر معوقوهم، واشتد حصارهم، وأفسدت مزارعهم وبساتينهم، ولا يجد أقوياؤهم عملاً يأخذون عليه أجراً، يسد حاجتهم.
إن الواجب على أغنياء المسلمين، وولاة أمرهم، في جميع البلدان الإسلامية، أن يقارنوا بين فقراء بلدهم، وفقراء المسلمين في فلسطين، ويقدموا الأكثر حاجة، بل الأكثر ضرورة، إضافة إلى أن الفقراء في فلسطين، مجاهدون في سبيل الله، جهاد دفع عن أنفسهم، وأرضهم وعرضهم.
وليست هذه دعوة لحرمان فقراء بلد الزكاة منها، وإنما هي دعوة للعدل بين فقراء المسلمين، وتقديم أهل الضرورات على أهل الحاجات، والأشد ضرورة على من هو أخف حاجة...
ولكن قد يطرأ بعض الأسباب التي تقتضي نقل الزكاة من البلد الذي تصرف منه، إلى بلد آخر.
وقد ورد في بعض الأحاديث، أن معاذاً رضي الله عنه، نقل بعض أموال الزكاة من اليمن، إلى المهاجرين والأنصار في المدينة..
قال القرطبي رحمه الله:
"وقد اختلفت العلماء في نقل الزكاة عن موضعها على ثلاثة أقوال:
القول الأول:
لا تنقل.. قاله سنحون وابن القاسم وهو الصحيح لما ذكرناه، وقال ابن القاسم أيضاً: وإن نقل بعضها لضرورة رأيته صواباً، وروي عن سحنون أنه قال: ولو بلغ الإمام أن ببعض البلاد حاجة شديدة جاز له نقل بعض الزكاة المستحقة لغيره إليه، فإن الحاجة إذا نزلت وجب تقديمها على من ليس بمحتاج، والمسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه.
والقول الثاني:
تنقل... وقاله مالك أيضاً، وحجة هذا القول ما روي أن معاذاً قال لأهل اليمن: ايتوني بخميس أو لبيس آخذه منكم مكان الذرة والشعير في الزكاة، فإنه أيسر عليكم وأنفع للمهاجرين بالمدينة" أخرجه الدارقطني وغيره...
القول الثالث:
"وهو أن سهم الفقراء والمساكين يقسم في الموضع، وسائر السهام تنقل باجتهاد الإمام والقول الأول أصح والله أعلم" [الجامع لأحكام القرآن (8/175)]
هذا ما رجحه القرطبي رحمه الله، وأرى أن ما ذكره عن سحنون أنه قال:
"ولو بلغ الإمام أن ببعض البلاد حاجة شديدة جاز له نقل بعض الزكاة المستحقة لغيره إليه، فإن الحاجة إذا نزلت وجب تقديمها على من ليس بمحتاج، والمسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه.. أقرب إلى مقاصد شرع الله...
والله أعلم…
|