مواصلة للموضوع
وَوَجْهُ الاعْتِبَارِ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ الْعَظِيمَةِ :
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ.. لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَشَرَعَ لَهُ الْجِهَادَ إبَاحَةً لَهُ أَوَّلا، ثُمَّ إيجَابًا لَهُ ثَانِيًا، لَمَّا هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ وَصَارَ لَهُ فِيهَا أَنْصَارٌ يَنْصُرُونَ اللَّه وَرَسُولَهُ.
فَغَزَا بِنَفْسِهِ صلى الله عليه وسلم مُدَّةَ مَقَامِهِ بِدَارِ الْهِجْرَةِ وَهُوَ نَحْوُ عَشْرِ سِنِينَ : بِضْعًا وَعِشْرِينَ غَزْوَةً .
أَوَّلُهَا غَزْوَةُ بَدْرٍ وَآخِرُهَا غَزْوَةُ تَبُوكَ : أَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَوَّلِ مُغَازِيهِ "سُورَةَ الأَنْفَالِ" وَفِي آخِرِهَا "سُورَةَ بَرَاءَةَ".
وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْمُصْحَفِ.. لِتَشَابُهِ أَوَّلِ الأَمْرِ وَآخِرِهِ.. كَمَا قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْقِرَانِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بِالْبَسْمَلَةِ.
وَكَانَ الْقِتَالُ مِنْهَا فِي تِسْعِ غَزَوَاتٍ.. فَأَوَّلُ غَزَوَاتِ الْقِتَالِ : بَدْرٌ وَآخِرُهَا حنين وَالطَّائِفُ..
وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا مَلائِكَتَهُ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ الْقُرْآنُ وَلِهَذَا صَارَ النَّاسُ يَجْمَعُونَ بَيْنَهُمَا فِي الْقَوْلِ وَإِنْ تَبَاعَدَ مَا بَيْنَ الْغَزْوَتَيْنِ مَكَانًا وَزَمَانًا..
فَإِنَّ بَدْرًا كَانَتْ فِي رَمَضَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ.. مَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ شَامِيَّ مَكَّةَ..
وَغَزْوَةُ حنين فِي آخِرِ شَوَّالَ مِنْ السَّنَةِ الثَّامِنَةِ.. وحنين وَادٍ قَرِيبٌ مِنْ الطَّائِفِ شَرْقِيَّ مَكَّةَ.
ثُمَّ قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غَنَائِمَهَا بِالْجِعْرَانَةِ وَاعْتَمَرَ مِنْ الْجِعْرَانَةِ.
ثُمَّ حَاصَرَ الطَّائِفَ فَلَمْ يُقَاتِلْهُ أَهْلُ الطَّائِفِ زَحْفًا وَصُفُوفًا وَإِنَّمَا قَاتَلُوهُ مِنْ وَرَاءِ جِدَارٍ .
فَآخِرُ غَزْوَةٍ كَانَ فِيهَا الْقِتَالُ زَحْفًا وَاصْطِفَافًا: هِيَ غَزْوَةُ حنين.
وَكَانَتْ غَزْوَةُ بَدْرٍ أَوَّلَ غَزْوَةٍ ظَهَرَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ عَلَى صَنَادِيدِ الْكُفَّارِ.. وَقَتَلَ اللَّهُ أَشْرَافَهُمْ وَأَسَرَ رُءُوسَهُمْ مَعَ قِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَضَعْفِهِمْ.. فَإِنَّهُمْ كَانُوا ثَلاثَمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ لَيْسَ مَعَهُمْ إلا فَرَسَانِ وَكَانَ يَعْتَقِبُ الاثْنَانِ وَالَثْلاثَةُ عَلَى الْبَعِيرِ الْوَاحِدِ . وَكَانَ عَدُوُّهُمْ بِقَدْرِهِمْ أَكْثَرُ مِنْ ثَلاثِ مَرَّاتٍ فِي قُوَّةٍ وَعِدَّةٍ وَهَيْئَةٍ وَخُيَلاءَ..
فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ غَزَا الْكُفَّارُ الْمَدِينَةَ وَفِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ.. فَخَرَجَ إلَيْهِمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ فِي نَحْوٍ مِنْ رُبُعِ الْكُفَّارِ وَتَرَكُوا عِيَالَهُمْ بِالْمَدِينَةِ ثُمَّ يَنْقُلُوهُمْ إلَيَّ مَوْضِعٍ آخَرَ.. وَكَانَتْ أَوَّلا الْكَرَّةُ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ صَارَتْ لِلْكُفَّارِ..
فَانْهَزَمَ عَامَّةُ عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ إلا نَفَرًا قَلِيلا حَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.. مِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ وَمِنْهُمْ مَنْ جُرِحَ.. وَحَرَصُوا عَلَى قَتْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى كَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ وَشَجُّوا جَبِينَهُ وَهَشَّمُوا الْبَيْضَةَ عَلَى رَأْسِهِ...
وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا شَطْرًا مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ مِنْ قَوْلِهِ :
(( وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ )) وَقَالَ فِيهَا : (( إنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ )).
وَقَالَ فِيهَا : (( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ )).
وَقَالَ فِيهَا : (( أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )).
وَكَانَ الشَّيْطَانُ قَدْ نَعَقَ فِي النَّاسِ :
أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ فَمِنْهُمْ مَنْ تَزَلْزَلَ لِذَلِكَ فَهَرَبَ.. وَمِنْهُمْ مَنْ ثَبَتَ فَقَاتَلَ..
فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : (( وَمَا مُحَمَّدٌ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ )).
وَكَانَ هَذَا مَثَلَ حَالِ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا انْكَسَرُوا فِي الْعَامِ الْمَاضِي [بقصد ما جرى من القتال بين المسلمين والتتار].
وَكَانَتْ هَزِيمَةُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْعَامِ الْمَاضِي بِذُنُوبِ ظَاهِرَةٍ وَخَطَايَا وَاضِحَةٍ : مِنْ فَسَادِ النِّيَّاتِ وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلاءِ وَالظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ وَالإِعْرَاضِ عَنْ حُكْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَعَنْ الْمُحَافَظَةِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ وَالْبَغْيِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ بِأَرْضِ الْجَزِيرَةِ وَالرُّومِ.
وَكَانَ عَدُوُّهُمْ فِي أَوَّلِ الأَمْرِ رَاضِيًا مِنْهُمْ بِالْمُوَادَعَةِ وَالْمُسَالَمَةِ شَارِعًا فِي الدُّخُولِ فِي الإِسْلامِ .
وَكَانَ مُبْتَدِئًا فِي الإِيمَانِ وَالأَمَانِ وَكَانُوا هُمْ قَدْ أَعْرَضُوا عَنْ كَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِ الإِيمَانِ .
فَكَانَ مِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ بِالْمُؤْمِنِينَ أَنْ ابْتَلاهُمْ بِمَا ابْتَلاهُمْ بِهِ لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيُنِيبُوا إلَى رَبِّهِمْ وَلِيَظْهَرَ مِنْ عَدُوِّهِمْ مَا ظَهَرَ مِنْهُ مِنْ الْبَغْيِ وَالْمَكْرِ وَالنَّكْثِ وَالْخُرُوجِ عَنْ شَرَائِعِ الإِسْلامِ فَيَقُومُ بِهِمْ مَا يَسْتَوْجِبُونَ بِهِ النَّصْرَ وَبِعَدُوِّهِمْ مَا يَسْتَوْجِبُ بِهِ الانْتِقَامَ..
فَقَدْ كَانَ فِي نُفُوسِ كَثِيرٍ مِنْ مُقَاتِلَةِ الْمُسْلِمِينَ وَرَعِيَّتِهِمْ مِنْ الشَّرِّ الْكَبِيرِ مَا لَوْ يَقْتَرِنُ بِهِ ظَفَرٌ بِعَدُوِّهِمْ - الَّذِي هُوَ عَلَى الْحَالِ الْمَذْكُورَةِ - لأَوْجَبَ لَهُمْ ذَلِكَ مِنْ فَسَادِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَا لا يُوصَفُ..
كَمَا أَنَّ نَصْرَ اللَّهِ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ كَانَ رَحْمَةً وَنِعْمَةً وَهَزِيمَتُهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ كَانَ نِعْمَةً وَرَحْمَةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ..
فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ :
( لا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إلا كَانَ خَيْرًا.. وَلَيْسَ ذَلِكَ لأَحَدِ إلا لِلْمُؤْمِنِ إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ فَشَكَرَ اللَّهَ كَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ فَصَبَرَ كَانَ خَيْرًا لَهُ ).
فَلَمَّا كَانَتْ حَادِثَةُ الْمُسْلِمِينَ عَامَ أَوَّلٍ شَبِيهَةً بِأُحُدٍ.. وَكَانَ بَعْدَ أُحُدٍ بِأَكْثَرِ مِنْ سَنَةٍ - وَقِيلَ بِسَنَتَيْنِ - قَدْ اُبْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ عَامَ الْخَنْدَقِ..
كَذَلِكَ فِي هَذَا الْعَامِ اُبْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ بِعَدُوِّهِمْ كَنَحْوِ مَا اُبْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْخَنْدَقِ وَهِيَ غَزْوَةُ الأَحْزَابِ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا "سُورَةَ الأَحْزَابِ"..
وَهِيَ سُورَةٌ تَضَمَّنَتْ ذِكْرَ هَذِهِ الْغُزَاةِ الَّتِي نَصَرَ اللَّهُ فِيهَا عَبْدَهُ صلى الله عليه وسلم وَأَعَزَّ فِيهَا جُنْدَهُ الْمُؤْمِنِينَ وَهَزَمَ الأَحْزَابَ - الَّذِينَ تَحَزَّبُوا عَلَيْهِ - وَحْدَهُ بِغَيْرِ قِتَالٍ.. بَلْ بِثَبَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِإِزَاءِ عَدُوِّهِمْ..
ذَكَرَ فِيهَا خَصَائِصَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحُقُوقَهُ وَحُرْمَتَهُ وَحُرْمَةَ أَهْلِ بَيْتِهِ لَمَّا كَانَ هُوَ الْقَلْبُ الَّذِي نَصَرَهُ اللَّهُ فِيهَا بِغَيْرِ قِتَالٍ.. كَمَا كَانَ ذَلِكَ فِي غَزْوَتِنَا هَذِهِ سَوَاءً.. وَظَهَرَ فِيهَا سِرُّ تَأْيِيدِ الدِّينِ كَمَا ظَهَرَ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ.. وَانْقَسَمَ النَّاسُ فِيهَا كَانْقِسَامِهِمْ عَامَ الْخَنْدَقِ..
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنْذُ بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم وَأَعَزَّهُ بِالْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ صَارَ النَّاسُ ثَلاثَةَ أَقْسَامٍ :
قِسْمًا مُؤْمِنِينَ وَهُمْ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا..
وَقِسْمًا كُفَّارًا وَهُمْ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْكُفْرَ بِهِ..
وَقِسْمًا مُنَافِقِينَ وَهُمْ الَّذِينَ آمَنُوا ظَاهِرًا لا بَاطِنًا..
وَلِهَذَا افْتَتَحَ "سُورَةَ الْبَقَرَةِ" بِأَرْبَعِ آيَاتٍ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَآيَتَيْنِ فِي صِفَةِ الْكَافِرِينَ . وَثَلاثَ عَشْرَةَ آيَةً فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ..
__________________
الأهدل
|