عرض مشاركة مفردة
  #5  
قديم 17-05-2003, 11:23 PM
القوس القوس غير متصل
وما رميت إذ رميت
 
تاريخ التّسجيل: Jul 2002
المشاركات: 2,350
إفتراضي

(5)

"بين أيادي الجلادين"
..ساقتني تلك المرأة معها بواسطة (الكلبشة) برفقة اثنين من الجنود اضافة الى مدير السجن (منصور القحطاني) كان يلتزم الصمت ولم يتحدث بكلمة واحدة، كان يسير الى الإمام ونحن الى الخلف الى ان وصلنا للركن الايسر من الساحة وما زال المكان يلفه الظلام والسكون الى درجة انعدام الرؤية تماما، والجو مشبع بالرطوبة، بينما أخذ الليل يرحل شيئا فشيئا بعد ان تدلت خيوط الفجر، كان منصور القحطاني يحمل ولاعة صغيرة أخذ يضئ بها الطريق، اتجه بنا نحو بناية متوسطة الحجم ليس بها أي منفذ يطل على الخارج عدا بوابة عريضة صلبة تتكون من قضبان حديدية متلاصقة وجدار سميك من المعدن مغطى بجدار آخر من الصفيح يصعب فتحه، مكثنا قرابة خمس دقائف ننتظر، فتح الباب من قبل اثنين من الجنود احدهما يدعى (عمر) وهو متوسط الطول اسمر اللون ممتلئ الجسم له ذقن صغير كلامه شبيه بصراخ النساء، اذا تلكم ضحك عليه الآخرون.
دخلنا سوية يتقدمنا مدير السجن… اصابتني رعشة شديدة ما كل هذا؟ كدت اختنق في تلك اللحظة من الغبار الكثيف الذي كان يغطي الارض ويتساقط فوق رؤوسنا من الأسقف، الجدران تمتلئ بالهواء الذي نهم باستنشاقه، وحتى ساعات الكهرباء لم اكن لأعرفها جيدا، كل هذا لاحظته، الظلام يغطي كل شيء وكأنه قبو قديم جدا، مد المدير يده ليهم بإشعال أحد الانوار المعتمة، واذا به يمزق الظلمة، المنظر، فقد كانت، الساعات منسوجة مع بعضها بواسطة خيوط العنكبوت وذرات الغبار متراكمة عليها..
…أضيئ نور خافت جدا واذا بممر ضيق طويل يبلغ طوله قرابة ستة امتار ونصف، وبعد ان تقدمنا للأمام بمسافة مترين واذا بممر آخر يقع على الجانب الايمن يبلغ طوله حوالي ثلاثة امتار، وكانت الحشرات تتطاير بين هذا الممر وذاك، والصراصير تزرع الأرض جيئة وذهاباً، الصراصير بكثرة اضافة الى وجود قاعدة سكنية خاصة بالنمل الكبير الذي أخذ يتكوم في كل ناحية، فكلما تقدمنا الى الإمام كلما ازداد كل واحد منا في السعال، وصلنا نهاية الممر واذا بقضبان من الحديد قد احكمت على هيئة باب محكم اغلاقه وبعد محاولة المدير لفتحه، امسكتني تلك المرأة التي كانت معنا منذ الدخول، امرتني برفع يدي الى الأعلى، سألتها لماذا. زجرتني بنظرات حادة (اسكتي.. ايش اتريدي اتقولي) بلهجتها الصحراوية، لهجة قاسية عنقية، لزمت الصمت، أخذت بتفتيش ملابسي فلم تر شيء، انتقلت الى شعري وأخذت تضغط بيدها فوق جسدي لربما اخفي شيئا ولكنها باءت بالفشل ولم تحصل على شيء، أمرتني بنزع حذائي وأخذت تبحث داخله، لكنها وجدته فارغا، قامت بنزع الجوارب من رجلي وبحثت داخلها، ايضا لم تجد شيئا، أخذت تنظر الي نظرات مليئة بالشك والحقد وهي تقول (متأكدة ما بتحملي شيء) أجبتها بكل تأكيد، ثم فتحت الكلبشة من يدي وبلمحة خاطفة أطلت على عقارب الساعة واذا بها تشير إلى الخامسة صباحا، فانتزعت الساعة من يدي ومدت يدها الى رأسي فانتزعت جميع المسّاكات الموجودة فيه، واذا بها تدفعني بقوة باتجاه باب حديدي نحو غرفة قد لفها الظلام، مخيفة جدا واغلقت البوابة وذهبت مع مدير السجن والجنود المرافقين، انتابني الخوف الشديد ليس من السجن والجنود المرافقين، انتابني الخوف الشديد ليس من السجن وانما من هذه الغرفة الموحشة حيث كانت عالية الجدران تحوي شقوق عريضة بجوانبها كأنها وهمية الشكل من شدة الغبار والحشرات المتعلقة بها، وكانت أرضها شديدة الانحدار وزواياها منفصلة عن بعضها البعض وكان بين الشقوق قطرات متخمرة من المياه ومتحولة للون الاخضر وبعضها للون الاسود تبث رائحة كريهة في الغرفة، كانت أسراب النمل والحشرات الصغيرة تمثل جمعات جماعات مترسبة وكانت الغرفة فارغة من أي حصير أرضي حيث بدت ساحتها تمثل محطة اتصال لإلتقاء الحشرات فيما بينها وخط اتصال طويل لحلقات النمل المتراصة والتي تمتد من خارج الممر الى داخل الشقوق.
هممت بالجلوس فوق عباءتي بعد ان افترشتها كحصير أخذت أفكر طويلا محتارة في امري ماذا أفعل.. ولكن رغم كل ذلك فأني لا استطيع جمع شتات فكري ولو بفكرة واحدة، كان رأسي يكاد يتفجر من شدة الالم وكانت عيناي تميلان الى الذبول من الاحمرار وشدة النعاس بسبب قلة النوم، كان القلق يأخذ مني مأخذا عظيما والخوف يراودني بين فترة وأخرى من تلك الغرفة... ولكن آه لو تتاح لي فرصة كي أنام ولو لمدة خمس دقائق..
بعد مضي ما يقارب ساعتين سمعت الضجيج يتعالى في الخارج وكأنه صوت المدير يتقدم ولكن الخطوات توحي بأنهم اكثر من شخص واذا بصدى عال تثيره حركة المفاتيح واذا بالأبواب تفتح وبالمدير قد أقبل ومعه تلك المرأة وأربعة من الجنود، فتحوا باب الغرفة نهضت فزعة ماذا يريدون هذه المرة.. لعلي سأعود إلى المنزل وكل ما حصل مجرد خطأ، فليس من المعقول ان تعتقل السلطة امرأة وبطريقة بشعة لربما هناك خطأ، لم يصب تفكيري في هذه اللحظة، فلقد امسكت بي المرأة واخرجتني من الزنزانة متجهة بي عبر الممر، واذا بصوت امرأة يصدر من الداخل حاولت أن ادير وجهي الى الخلف لمعرفة من هناك، رفضت وبشدة صارخة في وجهي ممنوع، بعد ذلك علمت بأن هناك امرأة اخرى في احدى الزنزانات، حيث كان السجن عبارة عن بناية متوسطة الحجم (يطلق عليه عنبر النساء او السجن الخاص بالنساء) يتكون من أربع زنزانات وغرفة واسعة اضافة الى مطبخ وقد تحول الى زنزانة هو الآخر، اضافة إلى ثلاثة حمامات في جهة منعزلة مقابل ثلاث مصبات من المياه لمجموعة من الحنفيات ويحتوي على ممرين أحدهما طويل والآخر قصير.. ما زلنا نواصل السير باتجاه زنزانة صغيرة دفعتني فيها تلك المرأة فرغم صغر حجمها الا انها أفضل من الغرفة الأولى، فالارض مستوية تحوي فراشا واحدا، واذا بالمرأة تخرج ويغلق الجنود باب الزنزانة في وجهي بقوة بعد ان قال أحدهم وهو يتثائب وقد بدا عليه النعاس الشديد بنبرة حادة وصوت ويكفي ما سببتيه لنا من ازعاج في هذه الليلة) قال منصور القحطاني (اذ احتجت ان تذهبي الى الحكام او اردت ان تشربي ماء فهذه هي السجانة سوف تكون في هذه الغرفة مشيرا بيده إلى غرفة واسعة تقع في الجانب الأيسر خلف البوابة الخارجية بمجرد نداء سوف تأتي وتفتح لك الباب واحذري ان تصدر منك أية حركة، خرجوا جميعا ولم تبق الا تلك المرأة، كانت طويلة القامة، حنطية اللون، قوية البنية تتميز بوجود علامة سوداء اسفل عينها اليمنة، سريعة اللهجة الصحراوية المبهمة، أخذت تقذفني بنظراتها الساخرة رافعة رأسها بكل اشمئزاز واستهزاء وهي تضحك وكأنني فريسة ثمينة قد وقعت بيدها، لكني لم اعرها أي اهتمام، حمدت الله كثيرا لنقلي الى هذا المكان… بعدها لجأت الى النوم لكني لم استطع، فهاجس القلق وشبح الخوف ما زال يراودني ما العمل اذن؟ لجأت الى الله سبحانه وتعالى بالدعاء وتلاوة بعض الآيات القرآنية التي أحفظها، فهدات نفسي واستقرت سريرتي بعد ان بزغ الفجر وحان وقت الصلاة وفور الانتهاء من الصلاة احسست بالنعاس فغفوت على أمل انتظار ما سيحدث في الغد.

(6)

(اليوم الأول)
…استيقظت سريعاً صباح ذلك اليوم، فأخذت أمعن النظر في هيئة الغرفة وتشكيلتها، ظننت ان الليل لم ينته بعد وأن النهار قد تأخر، ولكن ليس من المعقول فلقد عفوت ما يقارب ثلاث ساعات بعد اداء فريضة الصلاة، لجأت مسرعة نحو الباب كي أتأكد اكثر حيث لم تكن هناك أية نافذة أستيطع أن اطل منها لمعرفة ما اذا كان الوقت نهاراً أم ما زال ليلاً… أصبحت ابحث عن ثقب صغير من الثقوب الموجودة، واذا بثقب يوازي خرم الابرة قد نفذ منه نور بسيط، تيقنت أن النهار قد أقبل لأن النور ينبعث من البوابة المجاورة المواجهة لزنزانتي باشراق أشعة الشمس المنعكسة..
كان باب الزنزانة مغلقاً بإحكام بقفل حديدي كبير لونه أسود مع سلسلة حديدية طويلة.. تذكرت آخر الكلمات التي نطقها المدير (اذا احتجت الى شيء فاطلبي السجانة).. ولكن بأي اسم.. فقلت يا امرأة.. هي.. يا سجانة واذا بها قد أقبلت أخذت تتكلم معي بخشونة سألتها لماذا تعامليني بهذا الشكل وبهذه القسوة، أجابتني (هل نسيت إش سويت البارح،.. تذكرت موقفاً حدث بيني وبينها في ليلة الأمس، حيث بداية دخولي الى السجن وبعد مرور ما يقارب نصف ساعة وأنا في تلك الغرفة المخيفة واذا بها تأتي وترمي بمكنسة كبيرة في وجهي قائلة (هيا قومي عليش شيء إتسوية بلحال بها المكنسة) امرتني بتنظيف الغرفة إضافة إلى تنظيف جميع حواشي السجن والزنزانات ما عدا الزنزانة المجاورة حذرتني من الاقترب منها لوجود امرأة اخرى هناك. مضيفة الى ذلك إعادة التنظيف مرة أخرى بالماء.. هنا صرخت في وجهها أنا لست شغالة لديكم ومهما عملت فلن ألبيّ لك هذا الأمر.. قالت.. (بتشوفي الويل ان رفضت واتصل بالمدير وأقله) وكذا مرة تعيد جملتها كي يتسنى لي فهم ما تقول (فأخذت تتصل عبر جهاز اتصال كان معلقاً خلف الباب مقابل ساعات الكهرباء، فكانت وظيفته اذا كانت هناك مخالفات من قبل المعتقلات تنقل فوراً عن طريق السجانة عبر هذا الجهاز، اضافة إلى تبادل الأوامر بين مسؤولي السجن والسجانة) فبعد انتهائها من الاتصال حضر المدير إلى السجن مكفهر الوجه، حاد، النبرات خشن الصوت، يتبختر في مشيته، ويستعلي كالطاووس في غروره وغطرسته، عادة ما يصيبه التوتر وسرعة الغضب، فها هو يصب جام غضبه على اولئك الجنود حتى وان كانوا في سن والده فيعاملهم اسوأ المعاملة ويفرض عليهم اشد العقاب ويوجه لهم اشد الاهانات واقذرها، فهاهم يترائون للناظر وسط ساحة السجن الملتهبة بحرارة الشمس أحدهم يزحف على بطنه بدون لباس على ذلك الاسفلت المنصهر وقد اصبح جسمه كالجمر من شدة الحرارة، وآخر قد تستعصي حالته لوقوفه على رجل بدون حراك، وذاك قد منع من شرب الماء طوال أربع وعشرين ساعة في ذلك النهار الحار المشبع بالرطوبة، والكثير الكثير من مساوئ هذه الشخصية، شخصية منصور مرعي القحطاني ومن لا يعرفها، حتى الاطفال الصغار يتمثل لهم شبح ورعب مخيف أثناء رؤيتهم له، فها هم لا يسلمون من زجره وسخريته لهم أثناء زيارتهم لآبائهم داخل السجن، وتراه في أكثر الاحيان قد أسدل يداه خلفه وهو يلوح بالخيزران يمنة ويسرى ضارباً هذا ومبعثراً ذاك وكأنه سعى لاستعباد آخرين في تلبية اوامره بالضرب والشتم والتهديد ونادراً ما يتكلم بأدب واحترام وعادة ما يطلق كلمات قذرة تليق بمستواه كمدير…
ها هو قد أقبل والفاظه تسبقه بالسب والشتم والزجر سألني لماذا لا تطيعي وتنفذي أوامر السجانة.. أجبته.. لو تأتي لي بأكبر رئيس للمباحث في المنطقة لما نفذت لكم هذه الأوامر.. وهل هذا من حسن الضيافة هل تكرمون الضيف في اول زيارة هكذا؟ هنا ازداد غضبه وأخذ يهدد ويتوعد وهو يعدو من الباب خارجاً (نحن نعرف كيف نجعلك مستعدة لتنفيذ الأوامر) صفق الباب خلفه وخرج. ومرت تلك الليلة بخير. ما يقارب الساعة التاسعة صباحاً اذا بالأبواب تطرق من جديد وإذا باثنين من الجنود وامرأة أخرى معهم أتت كي تستبدل الدوام مع السجانة الموجودة وعبر حوار بينهما علمت بوجود سبع سجانّات أخريات يتناوبن الدوام الرسمي خلال أربع وعشرين ساعة يومياً.. بعدها ولّت السجانة (نورا) تاركة وصيتها لرفيقتها عليك بهذه وكانت تشير لي، انتبهي لها جيداً، وخرجت على أن تعود في الأسبوع القادم…
__________________
وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (المائدة:83)