(7)
"بداية التحقيق"
…في تمام الساعة السابعة صباحاً من اليوم التالي أحسست بخطوات منتظمة تتقدم باتجاهي ثم بدأت الخطوات بالإسراع، استرقت السمع أدنيت أذني من الباب سمعت أحدهم يقول هل أحضرت (الكلبشة) والآخر يرد عليه بالإيجاب، كانوا ثلاثة من الجنود وكان برتبة عريف ويدعى (عامر) وهو شخصية متكبرة، عالي الصوت وهذه ميزة يعرف بها لدى الجميع فيستطيع الإنسان معرفته وان كان على بعد خمسين متراً او اكثر، مخيف الجسم وله ذقن صغير، رجل خاوي ويحب الإزعاج، فتح الباب بعد ان هزه هزة عنيفة وتقدموا باتجاه زنزانتي وضعوا الكلبشة في يدي وأخرجوني معهم، أثنين من الجنود أحدهم يمشي إلى الأمام والآخر يمشي إلى الخلف إضافة إلى العريف، أما السجانة فقد لزمت يداي بقوة بجانبي حتى لا أتمكن من الأفلات من قبضتها وهي قصيرة القامة، نحيفة الجسم، ترتدي برقعاً اسود اللون واسمها (ظبية) تنتمي إلى قبيلة بني قحطان ويتميز كلامها باللهجة البدوية الحادة.. ما زلنا نواصل السير إلى أن تجاوزنا البناية الخاصة بسجن النساء، مررنا بساحة واسعة جداً كانت مسورة بجدران صلبة حيث يتكون سقفها من أشباك حديدية متراصة في صورة مربعات طولها في عرضها عبارة عن سنتميترات معدودة، خرجنا من الساحة مروراً بممر صغير، باجتيازه دخلنا ساحة كبيرة أخرى كانت تضم مكتب مدير السجن، إضافة إلى أربعة من العنابر التي يتواجد فيها اكثر المعتقلين.. ومن الاتجاه الايمن خلف العنابر وصلنا إلى ساحة اخرى عبر بوابة صغيرة وهذه الساحة تحوي غرف الموظفين، إضافة الى وجود مكاتب المحققين على الجانب الأيسر، تقابل هذه المكاتب غرف خاصة للتعذيب وزج المعتقلين داخلها… أدخلوني غرفة مجاورة لمكتب التحقيق، وما زال الجنود والسجانة برفقتي، أقبل رجل يرتدي اللباس المدني وأفصح قائلاً انتظروا في هذه الغرفة لحين انتهاء النقيب فهو مشغول الآن… تم انتظارنا ما يقارب خمسة عشر دقيقة بعدها خرجنا سوية تجاه الغرفة الثانية حيث مكتب التحقيق.. بعد طرق الباب واذا بصوت من الداخل يأمرنا بالدخول.. تقدمنا الجندي ونحن الى الخلف واذا بطاولة فخمة تتوسط الغرفة ومكتبة كبيرة خشبية من الجانب الايمن ترتكز في زاوية الغرفة، كانت خاوية لا تحوي إلاّ مجموعة بسيطة من الملفات وبعض المستندات، وخلف الباب وضع جهاز تلفزيون صغير وجهاز فيديو وبعض من اشرطة الفيديو حجم صغير، بالإضافة إلى مقعدين من النوع الفخم كسيتا بالجلد السميك بنية اللون، وكانت في الجانب الأيسر، أما الجانب الأيمن فتوجد بعض الكراسي الخشبية المتناثرة في غير انتظام… وكان على الطاولة تلفونان أحدهما لاستقبال المكالمات الداخلية على نطاق السجن والآخر للمكالمات الخارجية.. ويلتصق بالطاولة مقعد دوار من النوع الفخم، كان المحق جالساً عليه يقابلنا بظهره وبالجانب الخلفي من المقعد، بادرت بالاسلام وبعد هنيئة من الوقت استدار بوجهه ورد السلام، أمر السجانة بفتح الكلبشة من يدي وأمرني بالجلوس على أحد المقاعد المقابلة للمكتب من الجانب الأيمن وجلست السجانة مقابلة لوجهي، والجندي ما زال واقفاً لدى الباب ينتظر الأوامر، أمره بالخروج فرفع يده محاذية لرأسه وضرب برجله الارض أداءً للتحية المعروفة (ضرب سلام) فولىّ خارجاً بعد ان اغلق الباب خلفه، حيث كان الباب المنيوم يكتسي اللون الأبيض ـ كان الجو يعمه الهدوء والصمت يخيم على الجميع اما أنا فقد إزدحم عقلي من كثرة طرح التساؤلات ولكني تركتها صامتة أترقب مسير الوضع، فأخذ يفتح بعض الادراج وسط الطاولة ويغلقها وكأنه يبحث عن شيء واذا به قد اخرج ملفاً وأخذ يكتب فيه، ثم اتصل هاتفياً وكان يصدر لمن يكلمه بعض الأوامر مثل هل كل شيء حسب الاصول، كما امرتك أريد كل شيء يكون جاهزاً وانا سوف اكون مستعداً، اغلق سماعة الهاتف بعدها.. ونحن ما زلنا على هامش الانتظار.. بعدها ضغط أحد الاجراس الموجودة من الجانب الأيسر خلف المكتب واذا بجندي قد أقبل وأدى نفس التحية فطلب منه احضار (دلة القهوة( وبعد خروج الجندي سألني عن اسمي فأجبته فأخذ يسألني عن حالي وصحتي وبكل استهزاء وسخرية قالها "عساك مرتاحة هنا!! لقد نورتي المكان، من زمان ونحن ننتظر قدومك، حصل لنا الشرف بزيارتك اليوم.. هذه الفرصة تمنيناها وها هي اليوم تتحقق فأرجوا ان لا نكون قد سببنا لك أي ازعاج المهم ان تكوني مرتاحة في الغرفة الجديدة، أخذ يهز رأسه رافعاً حاجبيه الى الأعلى شامخاً بأنفه.. هه.. لا بد ان تكوني مرتاحة فهي غرفة على الكيف (يقصد الزنزانة) أجبته حمداً لله على كل حال.. توجه لفتح أحد الادراج في مكتبه واخرج ملفاً أصفر اللون فتح الصفحة الأولى وضرب به بقوة في وجهين فوق المكتب ورمى امامي بقلم ازرق طويل كان مخططاً باللون الأسود والاصفر وأمرني بالكتابة، أخذ يردد اسمي لعدة مرات ثم اخذ يخط الاسئلة وسط الملف وقبل ان يسلمني إياها للاجابة عليها لا بد من الاجابة عليها شفهياً ـ فمرة أخرى سألني عن اسمي.
ما اسمك؟
ـ عالية مكي.
كم عدد افراد عائلتك؟
احد عشر(11).
من الكبير في الأسرة؟
ـ افراد الأسرة كلهم صغار ما عدى انا الكبيرة.
انت الكبيرة اذن!؟
ـ نعم.
كم عدد اقربائك؟ عدديهم فرداً فرداً وبالخصوص اعمامك اذكري أسمائهم بالكامل؟
بعد ان عدّدت مجموعة من اقاربي اجبته ليس لدى اعمام
ألديك أخوال من هم؟ اذكري اسمائهم بالكامل؟
ـ ليس لدي اخوال.
وكان الملف يتردد بين ايدينا هو يأخذه لكتابة السؤال بقلم اسود عريض وانا بدوري استرد الملف للإجابة على اسئلته بالازرق حيث أمرني بالتوقيع فور الانتهاء من الاجابة على كل سؤال، أخذ الملف وكأنه يكتب شيئاً، وبعد ان سلمني الملف للتوقيع فقط بدون إجابة على أية سؤال، اتضح بأنني أمضيت لإغلاق المحضر حيث كتب أنه في تمام الساعة كذا…. تم أغلاق المحضر…..
مع حضور السجانة فلانة……. التوقيع……
واذا به يضغط زراً على اثره حضر إثنان من الجنود ومعهم الكلبشة ثم وضعها في يدي وأعادوني الى الزنزانة مرة أخرى. كان ذلك في يوم الأربعاء والذي يصادف آخر يوم عمل حيث يومي الخميس والجمعة من كل أسبوع تعطي الإجازة الرسمية لموظفي الدوائر الحكومية.
قضيت هذين اليومين بفارغ الصبر وعلى أحر من الجمر بانتظار جلسة التحقيق المقبلة وبلهفة شديدة لمعرفة السبب في اعتقالي…
في صبيحة يوم السبت في تمام العاشرة، طرق الباب وفتحت الزنزانة واقتادوني مرة أخرى الى حيث المكتب وفي نفس الوقت اقتادوا زميلتي التي كانت في الزنزانة المجاورة، وضع القيد في يدي وسرنا باتجاه المكتب، أعطي المحقق اشارة بوصولنا فسمح لنا بالدخول واذا به منكفأً على مقعده واضعاً ساعديه فوق المكتب وكفّاه محاذيان لوجهه وكان يتلاعب بالقلم بين اصابعه، وقد وضع ملفاً أصفر امامه اضافة الى ورقة بيضاء صغيرة، لم أنتبه سوى لمجموعة من النقاط والارقام الموجودة فيها، واذا به يلقي بابتسامة عريضة وقبل ان يسمح لنا بالجلوس رحب بنا قائلاً باستهزاء أهلاً وسهلاً!! لماذا واقفين تفضلا بالجلوس، جلست بجانب السجانة لفترة معينة على اثرها رنّ جرس الهاتف، رفع السماعة للرد عليها وفوراً اغلقها بدون ان يتكلم وكأنه ينتظر إشارة معينة، نظر الى الورقة الصغيرة التي امامه وأبدى ابتسامه استهزاء وأخذ يكرر وهو يهز رأسه (اهلاً وسهلاً) نظر لي بعدها وقال اهلاً وسهلاً.. بالشيخة، كيف الحال يا شيخة ام وائل يا طالبة العلوم الدينية، فوجئت معرفته لكنيتي، وتملكني الذعر من هول المفاجأة واحسست بالدم يسري في عروقي بسرعة، بدأت علامة الارتباط تهزني.. كادت أحاسيس ان تخونني حاولت ان استعيد ثقتي.. بالله سبحانه وتعالى هدأت نفسي بعد قليل.
هامت يده اللئيمة لتضغط على زر صغير على اثره حضر أحد الجنود، إنتهزت فرصة كلامه وإصدار اوامره للجندي فنقلت الى حيث أمرني بالجلوس طلب من الجندي إحضار الشاي والقهوة وفور خروجه أخذ المحقق يسترسل في ترتيب كوفيته واذا به يرمي بقلم في وجهي قدم الملف وفتح المحضر وبدأ بالسؤال..
يا طالبة العلوم.. ما هي المدن التي قمت بزيارتها داخل المملكة وفي أي تاريخ؟ـ
ـ زرت مكة والمدينة للعمرة ولا اتذكر التاريخ.
ألم تذهبي الى مكان آخر فقط للعمرة؟..
نعم.
ما هي البلدان او الدول التي قمت بزيارتها خارج المملكة وفي أي تاريخ؟
ـ لم ازر مكان خارج المملكة ما عدا مصر فقط ولا اتذكر التاريخ فقد كان قبل ثلاث سنوات تقريباً.
__________________
وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (المائدة:83)
|