شيء من الحق
نعم .. عندنا مشكلة!
د. خالد محمد باطرفي
قال لي غاضبا: عممت عندنا واختزلت في الشرح عند غيرنا .. اتق الله يا مؤمن. من قال لك ان ''كل'' مناهجنا، و''كل'' توجهاتنا الدينية، و''كل'' خطابنا الديني ''متوتر'' تجاه الآخر، و''أحادي'' تجاه المذاهب والتيارات الإسلامية الأخرى، و''متسلط'' و''شمولي'' و''غالب على غيره'' من العلوم والأفكار والاتجاهات. قلت: أولا لم أقل ''كل''، ولا يحق لي أن أقول. ولكنني أردت أن أؤكد بأن هذا الذي وصفت هو واقع نعيشه منذ عشرات السنين. واقرأ مناهجنا، واشهد خطب الجمعة في مساجدنا، واستمع إلى شرائط الكاسيت وطالع المطبوعات والفتاوى والنشرات لتعرف بأن هناك تيارا لا يستهان به يميل إلى ''توحيد'' المنهج والخطاب واختزال كل ما يصل إلى الوعي العام في منطق واحد، وتفسير واحد، ومذهب وحيد. وهذا التيار لم يتوقف هنا بل خرج به الدعاة وطلاب العلم إلى غيرنا من البلاد. وأذكر أنني في الولايات المتحدة تعرضت لموقف يعبر بدقة عما أعنيه وكاد يسفر عن ردة كثير من المسلمين الجدد عن الإسلام. فقد أبلغت سيدة سعودية المسلمات الأمريكيات بأن غطاء الوجه جزء من الدين، لا يكتمل إيمانهن إلا به، وترجمت لهن في هذا الشأن فتوى لأحد شيوخنا الأجلاء. وعندما زاد اللغط اتصلت بي زوجتي من قسم النساء في المركز الإسلامي لتبلغني بما حدث. رجعت إلى زوج السيدة السعودية لأطلب منه إفهام زوجته بأن في الأمر سعة، وأن علماء الأمة اختلفوا في هذا الشأن، واختلاف الأئمة رحمة للأمة، وذكرته بأن زوجته نفسها تكشف وجهها حتى تتمكن من قيادة السيارة هناك. أتدري ماذا كانت إجابته؟ رد بأننا سعوديون، نتبع مذهبنا وعلماءنا، ولا يصح أن ''نروج'' لغيرهم، خاصة وقد عم البلاء في الأمة وكثر التهاون عند علمائها، وخرج الكثيرون عن مذهب السلف الصالح وحظيرة الإيمان الصحيح. وأن الأمريكيين ضعيفو دين، وفي ضعف دينهم ضعف للأمة، ولن يضير الدين العظيم أن هم خرجوا منه. اضطررت للتدخل وطلبت من زوجتي أن تبلغ السيدات بالفتاوى المختلفة في هذا الشأن فهدأ بالهن وانطفأت فتنة كادت تقسم الجالية الإسلامية بين معسكر ''المسلمين الأجانب'' (لاحظوا المصطلح) ومعسكر ''المسلمين السلفيين العرب''. إلا أن شيخنا لم يهدأ له بال، فألب علي المسلمين ''الخليجيين'' واتهمني عندهم بالتطاول على مشايخنا وعدم الولاء للوطن والتلاعب بالدين للتقرب من الأمريكيين، وشكك في عقيدتي لمخالفتي عقيدة ''الولاء والبراء''، وكاد ينتهي الأمر بتكفيري. ألا يذكرك منطق صاحبنا بالمنطق السائد؟! يا أخي الكريم لنعترف بصراحة ووضوح أن عندنا مشكلة! فالاعتراف أول طريق العلاج. قال: المشكلة محدودة بأفراد، كصاحبك، ومجتهدين وجهاديين وربما بعض المتنطعين هنا أو هناك. لكنها ليست مشكلة عامة تصل إلى حد وصفها بالظاهرة. وعقاب مرتكبي الجرائم تكفي لردع غيرهم، وإحقاق الحق والعدل. أما المفكرين، مهما بلغ تطرفهم، فهم ردة فعل طبيعية لمتطرفي الفكر المقابل، فكر الإلحاد والعلمانية والاستغراب. قلت: بل هي ظاهرة، وكفانا تعاميا. فما نراه صورة تنعكس على مرآة الواقع، ومسح الصورة عن المرآة لن يزيل الأصل، كما أن أذى شجر الصبار لا يزول بنمص الشوك بل باجتثاث جذوره. وكما بدأت حربنا على تجارة المخدرات بإعدام تجارها قبل مروجيها ومستخدميها، فإن حربنا على الإرهاب يجب أن تبدأ بمنظريها ومفتيها الذين يرسلون بالآخرين إلى طريق الجنة ويختبئون هم وأبناؤهم وأصدقاؤهم بعيدا عن هذا الطريق. أما المقارنة بالفكر المنحرف في الاتجاه المضاد، فليست مقارنة عادلة. فالفكر الذي يدعو إلى ارتكاب الجريمة ويقوم على تكفير وكراهية المخالفين والتحريض عليهم ليس كفكر مهما كانت مآخذنا عليه، يعبر عن وجهة نظر لا تتجاوز القول البائن إلى فعل شائن. وإذا كان فتح الباب أمام الحوار بين كافة التيارات الفكرية مطلوب، خاصة وأن الفضاء المفتوح يجعل من المستحيل غلقه، فإن القبول بحق طرف بالتحريض الدموي على طرف آخر يؤدي بالضبط إلى هذا الحال المرعبة التي انتهينا إليها. قال: واضح أنك متحيز في وجهة نظرك، لأنك تفصل في جانب وتختزل في آخر. لماذا لا توصف الواقع الذي قاد هؤلاء ''المجاهدين'' إلى التطرف والخروج عن دائرة الحوار إلى العنف. وما دام بحثك عن الجذور، كلها لا بعضها، فلماذا لا تتوسع في الحديث عن الأبعاد السياسية الأمنية والاجتماعية للموضوع؟ قلت: واضح أنك لا تقرأ ما نكتب، لأن هذه الأبعاد كانت قضيتنا قبل ان تكون قضية المتطرفين. ومشاريع الإصلاح والعدالة الاجتماعية والحوار الشفاف من جانب، ومخططات أعداء الأمة والمظالم الواقعة عليها من جانب آخر كانت ومازالت مواضيع متصلة لحديثنا وكتاباتنا. ولكن التركيز على هذه الجوانب اليوم، بمنطق (نعم .. ولكن) يصبح تبريرا بأكثر منه تفسيرا لجرائم لا بد من التعامل معها على أنها كذلك، ودفاعا عن مجرمين لابد من تطبيق العقوبة الشرعية عليهم. لو أرادوا الحوار، يا أخي، لحاورناهم، ولكنهم أعلنوا علينا الحرب، وليس لهم عندنا اليوم إلا الحراب.
kbatarfi@al-madina.com
__________________________
جريدة المدينة السعودية , يوم الاحد 24/3/1424ه الموافق 25/5/2003
www.al-madina.com