عرض مشاركة مفردة
  #2  
قديم 09-06-2003, 02:09 AM
المناصر المناصر غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2003
المشاركات: 396
إفتراضي مواصلة للموضوع..

أقوال العلماء في مشروعية الهدنة..

وقد شرع الله تعالى للمسلمين الصلح والهدنة، عندما يفقدون القدرة على الجهاد، أو يرون فيها مصلحة راجحة، أو ضرورة لازمة، أو حاجة داعية..

كما حصل في صلح الحديبية، بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقريش، مع ما كان في هذا الصلح من الإجحاف بالمسلمين، الذين حزنوا حزناً شديداً لعقده، وقد كان في هذا الصلح من المصالح العظيمة، أن سماه الله تعالى "فتحا"..

كما قال تعالى: (( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً )) [أول سورة الفتح].

وقد تكلم العلماء في مشروعية الهدنة والصلح مع الأعداء في كتب التفسير، بمناسبة تفسيرهم لبعض آيات القرآن الكريم التي لها صلة بالموضوع، وكذلك شراح الحديث بمناسبة شرحهم للأحاديث التي لها صلة بالموضوع كذلك، وفي كتب الفقه في الأبواب الخاصة بالموضوع.

يضاف إلى ذلك ما سطرته كتب السيرة النبوية، مما وقع في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، أو في كتب التاريخ في عهد صحابته من بعده، ثم ما تكرر في عهود الأئمة من بعدهم، في هذا الباب.

و يَرِدُ كلامُ المفسرين غالباً في تفسير الآيات الثلاث الآتية:

( 1 ) (( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )) [الأنفال:61].

( 2 ) (( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )). [التوبة (5)].

( 3 ) (( فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ )) [محمد (35)].

فظاهر آية الأنفال يدل على أن المسلمين مأمورون، بأن يميلوا إلى السِّلم إذا مال إليه العدو، ومعنى ذلك أن يَقِف المسلمون الحربَ القائمة بينهم وبين عدوهم، إذا طلب العدو ذلك منهم، على صلح يعقد بينهم بشروطه.

فهل حكم هذه الآية ثابت باق في الإسلام، أو هو منسوخ بالآيتين المذكورتين في سورة التوبة وسورة محمد؟

( 1 ) رأى بعض العلماء أن آية التوبة نسخت آية سورة الأنفال، لأن أحكام الجهاد التي نزلت في سورة التوبة، كانت هي آخر مراحل الجهاد في الإسلام، ونسب القول بالنسخ إلى ابن عباس رضي الله عنهما، وغيره.

ومعنى النسخ أن حكم المهادنة والمسالمة، لم يعد مشروعاً، فليس للمسلمين أن يعقدوا مهادنة مع عدوهم، إلا في حالة الضرورة، فالضرورة شرط في عقد الهدنة عند هؤلاء.

قال الكاساني:
"وَشَرْطُهَا الضَّرُورَةُ، وَهِيَ ضَرُورَةُ اسْتِعْدَادِ الْقِتَالِ، بِأَنْ كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ، وَبِالْكَفَرَةِ قُوَّةُ الْمُجَاوَزَةِ إلَى قَوْمٍ آخَرِينَ، فَلا تَجُوزُ عِنْدَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ".. [بدائع الصنائع (7/108وما بعدها)].

وقال ابن رشد رحمه الله:
"فأما هل تجوز المهادنة؟ فإن قوماً أجازوها ابتداء… إذا رأى ذلك الإمام مصلحة للمسلمين، وقوم لم يجيزوها إلا لمكان الضرورة الداعية لأهل الإسلام..". [بداية المجتهد ونهاية المقتصد (1/283)].

( 2 ) ورد القول بالنسخ كثير من العلماء من مفسرين وغيرهم، فأجازوها للمصلحة.

فقال ابن كثير رحمه الله:
"وقول ابن عباس ومجاهد، وزيد بن أسلم، وعطاء الخراساني، وعكرمة والحسن، وقتادة: إن هذه الآية منسوخة بآية السيف في براءة.. (( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ )) فيه نظر أيضا..

لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك، فأما إذا كان العدو كثيفاً، فإنه تجوز مهادنتهم، كما دلت عليه هذه الآية الكريمة، وكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، يوم الحديبية، فلا منافاة، ولا نسخ ولا تخصيص. والله أعلم". [تفسير القرآن العظيم (4/84) تحقيق سامي بن محمد السلامة].

ومما استدل به القائلون بالنسخ، أن الله تعالى نهى المسلمين، أن يدْعوا عدوهم إلى المهادنة والمسالمة؛ لأنهم الأعلون عليهم بدينهم الحق، كما في آية محمد السابقة: ((فَلا تَهِنُوا.. )) الآية..

ومعلوم أن للمسلمين عُلُوَّين:

علو معنوي.. وهو كونهم على الدين الحق الذي لا يقبل الله دينا سواه، فهم الأعلون على غيرهم في هذا..

وعلو مادي.. وهو القوة التي يستطيعون بها محاربة العدو طلباً أو دفعاً، وهي التي أمرهم الله تعالى بها في قوله: (( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ.. ))..

ولا شك أن العلو المعنوي وحده، بدون العلو المادي، غير كاف في تكليف الله تعالى المسلمين قتالَ عدوهم؛ لأنه تعالى: لا يكلف نفساً إلا وسعها.

ولهذا فسر ابن كثير رحمه الله العلو في آية محمد بالعلو المادي، من كثرة العَدَد والعُدَد، فقال:
ثم قال جل وعلا لعباده المؤمنين (( فَلا تَهِنُوا )) أي لا تضعفوا عن الأعداء وتدعوا إلى السلم، أي المهادنة والمسالمة ووضع، القتال بينكم وبين الكفار، في حال قوتكم وكثرة عَدَدكم وعُدَّتكم، ولهذا قال: (( فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ )) أي في حال علوكم على عدوكم.

فأما إذا كان الكفار فيهم قوة وكثرة، بالنسبة إلى جميع المسلمين، ورأى الإمام في المهادنة والمعاهدة مصلحة، فله أن يفعل ذلك..

كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين صده كفار قريش عن مكة، ودعوه إلى الصلح، ووضع الحرب بينهم وبينه عشر سنين، فأجابهم صلى الله عليه وسلم إلى ذلك".. [تفسير القرآن العظيم (4/182)].

واستدل القائلون بمشروعية الهدنة للمصلح والحاجة، بما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه عقد الهدنة مع مشركي قريش.

كما روى ذلك البراء بن عازب وغيره، قال:
"لما أحصر النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت، صالحه أهل مكة على أن يدخلها فيقيم بها ثلاثاً، ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح السيف وقرابة، ولا يخرج بأحد معه من أهلها، ولا يمنع أحداً يمكث بها ممن كان معه".. [صحيح البخاري، برقم (2552) وصحيح مسلم، (1783)].

و"الْجُلُبَّان" قال النووي:
"والجلبان بضم الجيم، قال القاضي في المشارق: ضبطناه جُلُبَّان، بضم الجيم واللام وتشديد الباء الموحدة، قال وكذا رواه الأكثرون، وصوبه ابن قتيبة وغيره، ورواه بعضهم بإسكان اللام، وكذا ذكره الهروي وصوبه هو وثابت، ولم يذكر ثابت سواه".. [شرح النووي على صحيح مسلم (12/136)].

ومعلوم أنه لا يسار إلى النسخ إلا بدليل يدل عليه، أو يحصل بين النصين تعارض لا يمكن معه الجمع بينهما، وقد أمكن الجمع هنا كما ترى.

وهذا هو رأي جماهير العلماء، بل ذكر النووي رحمه الله الإجماع على جواز الهدنة للمصلحة، فقال:
"وفي هذه الأحاديث دليل لجواز مصالحة الكفار إذا كان فيها مصلحة، وهو مجمع عليه عند الحاجة". [شرح النووي على مسلم (12/143)].

اختلاف حكم الهدنة باختلاف حال المسلمين ومصلحة الإسلام..

فإذا كان المسلمون أقوياء عَددا وعُدَدا، لم تجز لهم المهادنة والمسالمة، إلا لمصلحة راجحة يراها أولو الأمر، كالطمع في إسلام العدو ونحوه.

وإذا كانوا ضعفاء عدداً أوعدة، جاز لهم مهادنة عدوهم ومسالمتهم على أساس الصلح المتاح.

قال القرطبي:
"قال السدي وابن زيد: "معنى الآية إن دعوك إلى الصلح فأجبهم، ولا نسخ فيها. قال ابن العربي وبهذا يختلف الجواب عنه، وقد قال الله عز وجل (( فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ )).

فإذا كان المسلمون على عزة وقوة ومنعة وجماعة عديدة وشدة شديدة، فلا صلح.. وإن كان للمسلمين مصلحة في الصلح لنفع يجتلبونه أو ضرر يدفعونه، فلا بأس أن يبتدئ المسلمون به إذا احتاجوا إليه.

وقد صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على شروط نقضوها فنقض صلحهم، وقد صالح الضمري وأكيدر دومة، وأهل نجران، وقد هادن قريشاً لعشرة أعوام حتى نقضوا عهده، وما زالت الخلفاء والصحابة على هذه السبيل التي شرعناها سالكة، وبالوجوه التي شرحناها عاملة".. [تفسير القرطبي (8/39-41)].

قال الجصاص، بعد أن ذكر اختلاف المفسرين في نسخ المعاهدة وعدمه:
"وإنما اختلف حكم الآيتين لاختلاف الحالين، فالحال التي أمر فيها بالمسالمة، هي حال قلة عدد المسلمين وكثرة عدوهم، والحال التي أمر فيها بقتل المشركين وبقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، هي حال كثرة المسلمين وقوتهم على عدوهم..

وقد قال تعالى: (( فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ )) فنهى عن المسالمة عند القوة على قهر العدو وقتلهم".. [أحكام القرآن للجصاص (4/354)].

وقال الشيرازي الشافعي:
"فإن لم يكن فى الهدنة مصلحة، لم يجز عقدها لقوله عز وجل: (( فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ )) وإن كان فيها مصلحة، بأن يرجو إسلامهم، أو بذل الجزية، أو معاونتهم على قتال غيرهم، جاز أن يهادن". [المهذب (2/259)].

و قال ابن قدامة الحنبلي في شرحه على الخرقي (7590 ) فَصْلٌ:
"وَمَعْنَى الْهُدْنَةِ أَنْ يَعْقِدَ لأَهْلِ الْحَرْبِ عَقْدًا عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ مُدَّةً، بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ. وَتُسَمَّى مُهَادَنَةً وَمُوَادَعَةً وَمُعَاهَدَةً، وَذَلِكَ جَائِز، بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ((بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ )).

وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا )).

وَرَوَى مَرْوَانُ، وَمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ:
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَالَحَ، سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو بِالْحُدَيْبِيَةِ، عَلَى وَضْعِ الْقِتَالِ عَشْرَ سِنِينَ"، وَلأنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ، فَيُهَادِنُهُمْ حَتَّى يَقْوَى الْمُسْلِمُونَ.

وَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ إلا لِلنَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ‘ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِهِمْ ضَعْفٌ عَنْ قِتَالِهِمْ‘ وَإِمَّا أَنْ يَطْمَعَ فِي إسْلامِهِمْ بِهُدْنَتِهِمْ‘ أَوْ فِي أَدَائِهِمْ الْجِزْيَةَ‘ وَالْتِزَامِهِمْ أَحْكَامَ الْمِلَّةِ‘ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ".. [المغني (9/238) ويراجع كتابه الكافي (4/340)].

والذي يظهر رجحانه، أن عقد الهدنة بين المسلمين وعدوهم، لمصلحة راجحة يراها ولي الأمر الأمين، أمر مشروع ثابت، بكتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعمل الخلفاء والأئمة من بعده، وعليه أئمة الفقه وعلماء الفتوى...
__________________
إرسال هذه الحلقات تم بتفويض من الدكتور عبد الله قادري الأهدل..
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك..