عرض مشاركة مفردة
  #1  
قديم 18-06-2003, 05:54 AM
شيماء الراوي شيماء الراوي غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Jun 2003
الإقامة: جمهورية العراق
المشاركات: 11
إفتراضي بغداد والوداع الأخير

اسمحوا لي أن أضع قصتي هنا..
فقد كتبتها قبل سقوط وطني الحبيب بيد الاحتلال ..
قصتي أهديها للأستاذ الفاضل منذر أبو حلتم الذي كان له أكبر الأثر في كل ما أكتب ..

وأهديها لأمي التي تعبت من أجلي كثيراً ودوماً ..

وأهديها إلى الشعب العراقي الذي لا زال صامداً ويناضل ..

أهديكم ..

بغداد والوداع الأخير ..

الغرفة باردة كئيبة ، السكون يكتم أنفاس كل شيء إلا الساعة .. أسمعها رتيبة دقيقة ، تدفع على الغيظ .. الهواء البارد يتسلل كل دقيقة ليغمرني فارتعش وأزيد من عدد الأغطية ..

قبل قليل دقت الساعة اثنتا عشرة دقة ( لا يمكن أن تكون ثلاثة عشرة كما تخيلت !! )

استرخي .. استرخي .. استرخي ثم أنقبض ..

ترى ما الذي ذكرني به ؟؟

ربما البرد ..

أغمض عيني .. أريد أن أنسى ..

يهب الهواء من النافذة .. شعرة في عيني دفعها الهواء .. آه يبدو أن عيني كانت مفتوحة .. ألم أغلقها قبل قليل !!

أغلقها من جديد علها تبقى مغلقة فترة أطول ..

صوت غريب دخل الجو ..

إنه صوت خطواته .. أليس كذلك ؟؟

بلى إنها هي .. ولكن من أين ؟؟ من الشارع ؟؟

أنهض من فراشي وأنثر الأغطية حولي .. أنظر عبر النافذة .. لا شيء سوى قطة تخرج من سلة المهملات ..

هشششش ششششش

أفزعتها بصوتي ، ثم عادت تتمشى غير آبهة بي ..

ألن ينتهي هذا الهراء ؟؟

منذ تلك الليلة وكل صوت يذكرني به .. خطواته .. ضحكاته .. صوته .. طريقته في الكلام .. هل أصبح الناس جميعاً يتحدثون ويضحكون ويخطون مثل مؤيد ؟؟؟

يا رب .. افرجها ..

الساعة دقت دقة واحدة .. يا ربي .. منذ العاشرة وأنا أحاول النوم ..

أتقلب في الفراش وأتدثر أكثر ..

لماذا لا أغلق الشباك ؟

لأنه قد يأتي .. أريد أن يكون الطريق أمامه سالكاً .. أريد أن أعرف بقدومه قبل أن أراه ..

ها ها ها هااااااه

ضحكته .. قفزت من السرير من جديد إلى النافذة ..

إنها ضحكته .. ولكن هذا الرجل .. ليس له نفس قوامه .. سقطت كتفاي ..

إنها تشبه ضحكة مؤيد لكنها ليست هي .. لا .. كيف لم أميزها ..مؤيد لا يمطها في النهاية هكذا ..

أعود لأندس تحت الأغطية ..

سأنهض في الصباح وقد أصابني الزكام وأحمر أنفي .. ولو كان مؤيد هناك لضحك ضحكته الصافية والتمعت عيناه وهو يقول :

لقد أهملت من جديد .. لماذا تركت النافذة مفتوحة ؟ الذنب ذنبك .. شكلك مهرجة بأنفك الأحمر هذا ..

كنت حينها سأرد غاضبة ، ولكن لو أنه قالها الآن لطرت من الفرح .. ولكن أين هو الآن ؟

أليس من الممكن أنه يعاني البرد كما أعاني ؟

لا لا ..

خفق قلبي .. وأحسست بوجيبه .. لا ..

يا رب تخليه يدفأ .. يا رب ..

لن أستطيع النوم .. تماماً ككل الليالي .. منذ تلك الليلة ..

قمت من السرير .. سحبت الكرسي .. وتناولت تلك العلبة المنقوشة من فوق الخزانة ..

أنزلتها وفتحتها .. هذا هو فستان الزفاف .. هل ترونه ؟

هذا هو ذوقه .. ومعه هذا الشال .. أليس جميلاً .. أليس لطيفاً ؟؟

ومع هذا الفستان هذا الحذاء .. يحفظ حتى قياس قدمي .. وهذا العقد من الذهب ، وهذا السوار ، وهذا الخاتم على شكل زهرة اللوتس لقد اختارها بنفسه ..

أذكر ذلك اليوم .. جاء يخبرني أننا يجب أن نذهب إلى محلات الذهب حتى نشتري النيشان معاً .. ابتسمت .. إنه فَرِح وسعيد ..

فقلت له : لكنني أريدها على ذوقك ..

لوى فمه بشكل طفولي ليدلني على أنه غاضب وقال :

لا.. يجب أن تختاريه بنفسك .. إنه لك وأنت من سيرتديه ..

ضحكت ولكنني قلت له : من جديد أنت من سيختار ..

فأجاب بلهجة استخفاف : إمشي .. وأنا سوف أحرجك هناك حتى تختاريه أنت ..

رسمت على وجهي علامات التحدي .. وذهبت معه ولكن في النهاية كان هو من اختارها ..

يا الله .. كم الذكريات جميلة ..

هذا الدفتر .. إنه دفتره .. من أيام الابتدائية .. لقد كتب فيه أشعاراً كثيرة كلما أقرأها أشعر به أكثر وأؤمن بآرائه ومبادئه وأفكاره .. لقد كان القلم طوع بنانه منذ الصغر .. ولولا أن والده أصر أن يكون طبيباً لأصبح كاتباً مشهوراً .. ولكن دراسة الطب لم تبق له وقتاً لشيء آخر ..

هذه الوردة الجافة .. لقد كانت نَضِرة في ذلك اليوم ..

كنت قد استلمت نتيجة الثانوية العامة ، وكان أول المهنئين وهدية النجاح .. كانت وردة !!

ولكنها وردة تحمل معها كلمات ومعاني وخطب كثيرة لا أملّ من سماعها ..

وضعتها برفق على ثوب الزفاف الذي لم أرتديه يوماً .. وجلست أتأمل كل شيء ..

ذهبت إلى النافذة .. وقفت هناك .. أنظر إلى الشارع الخالي وإلى السماء وتلك النجمة التي تتوسط السماء ببريقها المميز ..

ذات مرة قال مؤيد .. إذا نظرت إلى تلك النجمة سأكون أنا أيضاً أنظر إليها وأكلمها لتنقل لك ما أقول ..

قالها صباح نفس اليوم .. ربما كان قد شعر بما سيحصل ..

هبت نسمة باردة فجأة فسرت في جسدي رجفة ..

صوت خطوات من جديد ..

هناك شخص قادم من الزاوية ..وقفت على أطراف أصابعي وانحنيت خارج الشباك لأرى أفضل ..

نعم .. أخيراً .. نفس القامة .. نفس المشية .. ربما تغيرت قليلاً .. ولكن كل شيء قد يتغير .. إنها الحرب ..

مؤياااااااااااااد

صرخت بها عالية وأنا ألوح بيدي .. يجب أن يعرف أنني لم أنسه .. وأني أنتظره .. ولم أصدق ما قاله الجميع ..

مؤيااااااااااااااااااااااد

لماذا لا ينظر ناحيتي ؟ ربما لا يزال بعيداً .. ربما لا يسمعني بوضوح ..

مؤيااااااااااااااااااااااااااد

أصرخ بها من جديد ..

يلتفت إليّ فأصرخ ..

مؤيد .. لقد انتظرتك أقسم أني لم أصدقهم .. كلهم كانوا كاذبين .. مؤيد .. ما بك ؟

ملامحه متغيرة !!

ولكن ..

لا ..

ليس هو ..

ليس مؤيد ..

سقطت منتحبة .. لماذا لم يعد مؤيد ؟

ألم يعدني ؟

اقتحمت أمي الغرفة واحتضنتني ..

( ما بك يا حبيبتي .. أهو مؤيد من جديد ؟؟ )

في عينيها الحنون نظرات قلقة ..

( نعم يا أمي .. نعم .. ظننت أنه هو .. ولكن .. لا .. مؤيد .. لن يأتي .. مؤيد لا يحبني .. )

دموعي .. ثورتي .. حزني .. غضبي ..

لماذا يا مؤيد .. لماذا لا تعود ..

( حبيبتي مؤيد مات .. لقد مات في منزله .. أنت رأيت غرفته المتهدمة .. لقد كان إحدى صواريخ الأمريكيين من نصيبه .. هذا ما كتبه الله عليه .. علينا أن نرضى بقضاء الله وقدره .. لقد أراد الله له الشهادة .. )

ضاعت باقي كلمات أمي .. وانطلقت عيناي للذكرى القريبة .. أتذكر النعش الذي حُمل به مؤيد .. نعش كبير .. ونعوش أخرى كبيرة وصغيرة .. مغطاة بعلم العراق .. أهل الحي يحملون النعوش .. ينطلقون بها نحو المقبرة .. يصرخون .. لا إله إلا الله محمد رسول الله .. لا إله إلا الله والشهيد حبيب الله .. وبعضهم ينادي : شوفوا يا عرب .. وآخر يكبر : الله أكبر .. الله أكبر .. النساء وسط دموعهن يطلقن هلاهل تشيع الشهداء .. شهداء من الأقارب .. ربما الزوج .. ربما الأخ .. ربما الأب .. ربما الوليد الصغير .. ربما الطفل الرضيع ..

تذكرت نفسها وسط المسيرة .. لا تعرف حقاً إلى أين هي ذاهبة .. منذ أن رأتْ السقف الساقط .. الدماء التي تغرق كل شيء .. ووالدة مؤيد الباكية اللاطمة .. لم تعد تعرف إلى أين تسوقها قدميها .. الجمع يسوقها عبر الأزقة التي شهدت طفولة العديد من الشهداء .. وطفولتها هي ومؤيد ..

ودموعها لا تستطيع لها كبحاً .. لماذا يموت بهذه الطريقة .. لماذا .. ما الذي قد جنته يداه .. نائم في سريره .. صحيح أنه كان ينوي قتال المعتدين ولكنه لم يشرع بذلك بعد !!

عادت للواقع سمعت والدتها تقول :

( صدقيني سنحارب .. وسننتصر على أمريكا وأعوانها .. وسننتقم لمؤيد ولغيره المئات ممن قتلتهم غارات أمريكا الجبانة ومؤيد لو كان هنا ما كان ليقبل أن يراك تبكين ..تذكرين أنه كان يرى البكاء ضعف .. وأنه علينا التسلح بالدعاء والقتال ضدهم ..

ليس من الممكن أن نجعلهم يدخلون أرضنا ويدنسون ذكرياتنا ويحرموننا مما أبقاه لنا الأحبة ..علينا أن نحمل السلاح ونقاتلهم وندافع عن الأرض والإسلام والكرامة .. ندافع عن الوطن .. عن موطن الذكريات وتراث الأحباب .. ولن نستطيع مواجهتهم بالحزن والبكاء وسهر الليالي ..

هيا يا حبيبتي .. هيا يا ميسون .. ارجعي إلى فراشك .. دعيني أغطيك جيداً .. دعيني أغلق هذه النافذة حتى لا تمرضي .. هيا ..

بعد أن هدأت .. وسكنت ارتجافتي .. وبعد أن مسحت أمي دموعي وقبلتني قبل أن تتركني .. لم أستطع النوم .. فكرت .. نعم .. لماذا أجلس باكية منتدبة ؟؟ لماذا لا أنتقم ؟

كان لكلمة الانتقام مذاق غريب .. لم أفكر به سابقاً .. أغمضت عيني فما أفكر به وأخطط له لا أستطيع تنفيذه وأنا أشعر بالتعب والنعاس ..

في الصباح قفزت بنشاط لم أعهده في نفسي .. سحبت المسدس والبندقية من تحت السرير .. فقبل أن تبدأ الحرب وزعت الحكومة السلاح مجاناً ووفرته في السوق بسعر رخيص .. معلنة أنه من حق كل شخص الدفاع عن نفسه .. ولكن ماذا عن الانتقام ؟؟

تأكدت من حشوها .. فقد علمنا والدي كيف نستخدمها وكيف نحشوها بالرصاص .. أخرجت علبة الرصاص ووضعتها أمامي .. سحبت حقيبة قديمة من تحت السرير كانت ملقاة هناك منذ زمن .. وضعت البندقية والمسدس وعلبة الرصاص .. ذهبت إلى غرفة الجلوس ومن تحت الخزانة أخرجت الأنبوبة الطويلة .. الـ ( آر بي جي ) سلاح فتاك ويناسب ما أنوي القيام به ..
__________________
يَموتُ الأنامُ بأرضِهمْ وأُريُدُ أَنْ بِأرضِي أَعِيشَ وَفيها يُدْرِكَني الفناءُ .. بعيدٌ عنِ الأوطانِ مرتحلٌ أنا ..
الرد مع إقتباس