عرض مشاركة مفردة
  #97  
قديم 19-06-2003, 09:53 PM
البارجة البارجة غير متصل
دكتوراة -علوم اسلامية
 
تاريخ التّسجيل: Jun 2003
المشاركات: 228
إفتراضي




/ صفحه 245/

المجتمع القرآني

ـ 4 ـ

الأمة الإسلامية

لحضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل الشيخ محمد أبو زهرة

وكيل كلية الحقوق بجامعة القاهرة

ــــــــ

1 ـ ذكرنا فيما أسلفنا من قول: خواص المجتمع القرآني ومزاياه، وأشرنا إلى مجتمع الأسرة، والمجتمع الصغير، أو ما يسمى في لغة العصر الحاضر المجتمع المحلي، وهو الذي كان يسمى في ماضي الإسلام مجتمع القبيلة؛ وقد ذكرنا أن هذه المجتمعات كلها وجدت في الإسلام لتكون أردافا معنوية تمد المجتمع الأكبر بعناصر القوة، وعناصر التأليف الرابط؛ والمعاني الإنسانية والخلقية الجامعة في ظل دين الله تعالى الذي انبثق نوره من السماء.

والآن نتجه الى القصد الأكبر من الوحي المحمدي، وهو تكوين جماعة إنسانية فاضلة تبنى في تكوينها على الفضيلة، وتربط العلاقات فيها بالأخلاق الفاضلة، والمودة الواصلة، وتكون العلاقة بينها وبين غيرها قائمة على العدالة والوفاء والمثل الإنسانية العالية.

2 ـ وقبل أن نخوض في بيان هذه العلاقات التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي الفاضل لابد أن نتكلم في الوحدة الإسلامية كحقيقة مقررة ثابتة في الإسلام؛ ذلك لأن توالي القرون على تفرق المسلمين في بقاع الأرض أشياعا وفرقا؛


/ صفحه 246/

" كل حزب بما لديهم فرحون " جعل كثيرين ممن لا يفهمون الأمور على وجهها ولا يمحصون الحقائق ويردونها إلى أصولها يظنون أن حال المسلمين تتفق مع المقرر في الإسلام، وأن تلك الفرقة القاطعة؛ وذلك الاختلاف المفرق يتفق مع حقائقه، وتقبله مقرراته، وهكذا صار المنكور معروفا، والباطل مألوفا، وبذلك صار الإسلام غريبا، وتحقق صدق ما تنبأ به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما رواه مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء ".

3 ـ إن المسلمين أمة واحدة، وما فرقهم إلا العصبية التي نهى عنها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والأطماع والشهوات التي صرعت الحقائق، وأخفت نور الإسلام، أو التنازع على الملك والسلطان، وضياع الشورى، وفساد الحكم، وقيام الظلم، حتى شوه المغرضون حكم الاسلام؛ وأحاطوه بطائفة من الوقائع ليطمسوا معالمه، ويخفوا ضوءه المنير.

ولذلك وجب علينا أن نرد الأمور إلى نصابها، فنقرر أن الإسلام لا يعرف إلا أمة واحدة هي أهل القبلة، وأمة محمد، وأمة الإسلام، فالأقاليم الإسلامية كلها من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب تجمعها أمة واحدة، ويظلها صف واحد؛ فليس العرب وحدهم أمة، ولا المصريون وحدهم أمة، ولا الباكستانيون وحدهم أمة، إنما هم جميعاً أمة واحدة، ولقد قرر سبحانه وتعالى تلك الحقيقة الثابتة فقال تعالى: " إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ".

فالإسلام دين الوحدة الجامعة، كما هو دين الوحدانية الكاملة؛ ولقد عمل الإسلام على تقوية هذه الوحدة، وحمايتها من كل عوامل التفرقة التي تفك العروة وتهدم البناء؛ وتجعل أمر المسلمين منقسماً، وجمعهم منحلا؛ ولذلك قال تعالى: " واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا " وقال تعالى: " ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم " وقال تعالى مقرراً الأخوة الإسلامية للعامة: " إنما المؤمنون إخوة، فاصلحوا بين أخويكم، واتقوا الله لعلكم ترحمون، يأيها الذين آمنوا


/ صفحه 247/

لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم، ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن، ولا تلمزوا أنفسكم، ولا تنابزوا بالألقاب، بئس الاسم الفسوق بعد الايمان، ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ".

4 ـ وإن أقوى ما يقوى الوحدة هو المودة التي تربط القلوب، وتصل النفوس؛ وأساس المودة هو التظامن، ولذلك وصف المسلمون بالرحمة التي تعتبر المودة مظهراً من مظاهرها، فقال تعالى: " أشداء على الكفار رحماء بينهم، تراهم ركعاً سجداً ببتغون فضلا من الله ورضوانا، سيماهم في وجوههم من أثر السجود، ذلك مثلهم في التوراة، ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار، وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيما" وإن السياج المتين الذي يحمى الجماعة إن لم تكن المودة هو العدالة، فهي الحصن الحصين الذي تأوي إليه معاني الاجتماع القويم.

وإنه لا يذهب بالوحدة إلا أمور ثلاثة:

أولها: التكبر بغير الحق، والاعتزاز بغير الله تعالى، ولذلك دعا الإسلام إلى التواضع من غير ضعة، كما دعا إلى العزة من غير كبرياء، ولقد قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " من تواضع لله رفعه الله، وما ازداد عبد بعفو إلا عزا " ووصف المؤمنين بالتظامن لإخوانهم، كما وصفهم بالرحمة، فقال تعالى: " أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون لومة لائم، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ".

وثانيها: الظلم، فإن الظلم يحل الوحدة، ويوجد النفرة، ويجعل كل واحد ينظر إلى الآخر نظرة الخائف الحذر، أو نظرة العدو المتربص، لا ألفة ولا ائتلاف، ولا تلاقي ولا اتفاق، ولذلك كان النهى عن الظلم نهياً عاماً لا يخص طائفة دون طائفة، ولا جمعا دون جمع، ولا جنساً دون جنس، ولقد روى في الحديث القدسي عن الله تعالى أنه قال: " يا عبادي إني قد حرمت الظلم على نفسي فلا تظالموا " ولقد قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " اشتد غضب الله على


/ صفحه 248/

من ظلم من لا يجد ناصراً غير الله " وقد قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " اجتنبوا دعوات المظلوم ولو كافرا، فإنها ليس دونها حجاب " وقال عليه الصلاة والسلام: " من مشئ مع ظالم ليعينه، وهو يعلم أنه ظالم، فقد خرج من الإسلام " وقال عليه الصلاة والسلام: " من أعان ظالما ليدحض بباطله حقاً، فقد برثت منه ذمة الله، وذمة رسوله، وهكذا يتضافر النهي عن الظلم، لأنه الهادم لبناء المجتمع الإسلامي.

الأمر الثالث: الذي يفك الوحدة الإسلامية، وهو الذي فكها، وانهارت بسببه دعائم بنائها هو العصبية، والعصبية أساسها أن يحس المسلم بانتمائه لقبيله أكثر من إحساسه بانتمائه للإسلام، وأن يؤثر الدعوة إلى العصبية على الدعوة إلى العدل، سواء أكانت العصبية هي القبيلة في دائرتها الضيقة، أم اتسع معناها فشمل الإقليم، أو شمل الجنس واللون، فكل تمسك بالانتماء لقبيلة أو نسب أو جنس أو إقليم هو من قبيل التمسك بالعصبية، وإيثارها على التمسك بعرى الحق والعدل، ومبادئ الإسلام التي لا تفرق بين جنس وجنس، ولون ولون، والتي يتمثل فيها قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " كلكم لآدم، وآدم من تراب ".

5 ـ وإن الدعوة إلى العصبية أيا كان شكلها ومظهرها هي الداء الدفين الذي ذهب بوحدة الإسلام، وفرق أمر المسلمين، وما زالت تلك الدعوات هي التي توسع الهوة، وتقطع أسباب الاتصال، وتجعل بأس المسلمين بينهم شديداً، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى، بل إنهم فقدوا في الوحدة الشكل والجوهر، والمظهر والحقيقة، وكان من المسلمين من يجهر بموالاته للذين يخربون الديار الإسلامية، ويبيدون المسلمين، من غير أي حركة مانعة، ولا أي قوة دافعة، حتى لقد استمرءوا لحوم المسلمين، كما تستمرئ الذئاب دماء البشر؛ وكما يستمرئ الكلب المسعور دماء الأحياء.

ولقد نهى النبي الذي ما كان ينطق عن الهوى عن العصبية وشدد في النهي، لأنه كان يتنبأ بأنها ستكون الداء الدوي الذي يصيب جسم الأمة الإسلامية،


/ صفحه 249/

فيجعله أمشاجا متفرقة، وأوزاعا متقطعة، وقطعا في هذا الوجود متناثرة تنوشها سباع البهائم من كل ملة، ومن كل قبيل، ومن كل لون، ولا نجد إلا كلمات جوفاء تنعق بها أصوات، وتتحرك بها ألسنة، كما تتحرك ألسنة البقر؛ لا يقصدون إلى معنى من معاني المحبة الإسلامية؛ ولا الاخلاص المحمدي.

لقد شدد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في النهي عن العصبية، فقال عليه الصلاة والسلام: " ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية " وعرف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) العصبية فقال: (العصبية أن تعين قومك على الظلم) ولقد قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (من نصر قوما على غير الحق، فهو كالبعير الذي تردى، فهو ينزع بذنبه).

وهكذا تواردت الآثار عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تنهي عن العصبية:

6 ـ ولأمر ما كان النصر الإسلامي الأول على غير المنهاج الذي كان للنصرة في البلاد العربية؛ ذلك أن الرجل كان إذا أراد النصرة استنصر بقومه وقبيلته، وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عند ما هم قومه بقتله، لم تكن نصرته بالبداهة من قومه وأصل عصبيته، فقريش قومه، وأصل عصبيته حاربوه، وكان النصر من الأنصار الذين لم يكونوا قومه ولا قبيلته، فكان النصر المؤزر غير مبني على عصبية، بل كان مبنياً على حمية دينية، وفضيلة إسلامية، فكانت عزة الإسلام من الله، لا من قبيلة ولا من عصبية، إنه إذا كان من بيت النبي الهاشمي من ناصره كعلي وحمزة، فقد كان منه من ناوأه كأبي لهب، بل إن عباس خرج محارباً في بدر، وإن كان كارهاً، وقد أسر، ولم تمنعه قرابته من أن يؤسر وألا يفك إساره إلا بفدية يفتدي بها نفسه.

وإن دل ذلك على شيء فإنه بلا ريب يومئ إلى ان عزة الإسلام لا تبنى على عصبية، وأن عزته من الوحدة لا من التفرق، وإنه ليومئ أيضاً إلى أن العصبية ستهدم بناء الوحدة إن وجدت دعواتها.


/ صفحه 250/

7 ـ وكذلك كان، فإن العصبية الجاهلية التي نبتت في آخر عصر الراشدين هي التي قطعت أوصال الوحدة الإسلامية، وكان الملوك الذين تسموا بأسماء الخلفاء يقرونها حتى يجدوا من ثغرة الخلاف ما يحكمون به في الجماعة الاسلامية؛ وينفذون منه إلى السلطان أو السلطة التي لا تعتمد على شيء من الحق والعدل، بقدر ما تعتمد على الدهاء، والعلم بسياسة التفريق والتخذيل وتوهين شأن الدين وإنه ليقول قائل ملوك بني أمية: (إن ربيعة لا تزال غاضبة على ربها أن جعل نبيه من مضر) ولعل ذلك القول يحكي بعض خواطر فعله وخلجات نفسه، لأن الله جعل نبيه من هاشم ولم يجعله من امية.

ولقد انتقلت العصبية في القرن الثالث الهجري من عصبية القبيلة إلى عصبية الجنس والأرومة، ثم إلى عصبية اللغة، فوجدنا الأمم التي دخلت في الإسلام من غير العرب قد اتجهوا إلى إحياء قومياتهم القديمة، وإحياء اللغات القديمة.

ولقد كان المسلم يسير من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، فلا يجد إلا لغة القرآن يتخاطب بها أهل الإسلام، فكان الرحالة المسلمون يسيرون من رياض الأندلس إلى الهند فلا يجدون مشقة في خطاب، إذ اللغة العربية تجمع الألسنة المتفرقة، فيشعر الجميع بأنهم أمة واحدة، إذ اللغة تجمع الخواطر والثقافة والتفكير والمنازع النفسية، وليست الأمم إلا ذاك.

وبعد أن انبعثت اللغات القديمة من مراقدها، انبعثت معها عصبية جامحة، وانقسامات جائحة، بل اختفى فيها نور العلم الإسلامي الذي كانت اللغة العربية وعاءه الذي زخر بكل ألوان الفكر الإنساني والاسلامي، وهل يعلم الناس أن فارس أصبحت لا تعرف العربية إلا في عدد محدود من رجالات العلم بها؛ وهي التي أمدت الفكر الإسلامي بأبي حنيفة والجاحظ والبخاري والفارابي وابن سينا، وجار الله الزمخشري، وفخر الدين الرازي، وشمس الأئمة الرضي، وغيرهم من أعلام الفكر الإسلامي والبيان العربي، وهل يعلم الناس أن بلاد ما وراء النهر التي كان منها الشيرازي صاحب المهذب وغيره من أفاضل العلماء، يسير فيها