الموضوع: بحوث في التوسل
عرض مشاركة مفردة
  #8  
قديم 21-06-2003, 11:58 PM
البارجة البارجة غير متصل
دكتوراة -علوم اسلامية
 
تاريخ التّسجيل: Jun 2003
المشاركات: 228
إفتراضي




رسالة الأستاذ واعظ زاده إلى الأستاذ بن باز

المفتى العام بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين. والصلاة والسلام على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهداه.

سماحة الأستاذ الجليل الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، الرئيس العام لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد المحترم.

السلام عليكم ورحمة الله، وبعد:

لاحَظت تركيزكم على مسألة التوحيد في عدد من أعداد مجلة البحوث الإسلامية، كما سمعتكم في جلستين حينما وفقت لزيارتكم، وتؤكدون تأكيداً متواصلا إرشاد الناس إلى التوحيد الخالص لله ربّ العالمين، لا شك في أنه الأساس القويم، والركن الركين لهذا الدين الحنيف، بل هو محور كلّ أحكامه وشرايعه، وهذه ميزة لمستُها في سماحتكم.

ومع احترامي وتقديري لجهودكم في هذا السبيل، خطر ببالي بعض الملاحظات، أحببت أن أبديها لكم راجياً أن يكون فيها خير الإسلام والمسلمين، والاعتصام بحبل الله المتين في سبيل تقارب المسلمين، ووحدة صفوفهم في مجال العقيدة والشريعة.

أولا: لاحظت سماحتكم تعدّون دائماً بعضَ ما شاع بين المسلمين ـ من التبرك بآثار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعض الأولياء، كمسح الجدران والأبواب في الحرم النبوي الشريف وغيره ـ شركاً وعبادة لغير الله، وكذلك طلب الحاجات منه ومنهم، ودعاءهم، وما إلى ذلك.

إني أقول: هناك فرق بين ذلك، فطلب الحاجات من النبيّ ومن الأولياء، باعتبارهم يقضون الحاجات من دون الله أو مع الله، فهذا شرك جلي لا شك فيه. لكن الأعمال الشائعة بين المسلمين، التي لا ينهاهم عنها العلماء في شتى أنحاء العالم الإسلامي من غير فرق بين مذهب وآخر، ليس هي في جوهرها طلباً للحاجات من النبيّ والأولياء، ولا اتخاذهم أرباباً من دون الله، بل مردّ ذلك كلّه (لو استثنينا عمل بعض الجهال من العوام) إلى أحد أمرين:

التبرك والتوسل بالنبيّ وآثاره، أو بغيره من المقربين إلى الله عزّ وجلّ.

أما التبرك بآثار النبيّ من غير طلب الحاجة منه ولا دعائه، فمنشؤه الحبّ والشوق الأكيدين رجاءَ أن يعطيهم الله الخير بتقربهم إلى نبيّه وإظهار المحبة له، وكذلك بآثار غيره من المقرَّبين عند الله.

وإني لا أجد مسلماً يعتقد أن الباب والجدار يقضيان الحاجات، ولا أن النبيّ (أو الولي) يقضيها، بل لا يرجو بذلك إلاّ الله إكراماً لنبيه أو لأوليائه أن يفيض الله عليه من بركاته.

والتبرك بآثارالنبيّ كما تعلمون، ويعلمه كلّ مَن اطّلع على سيرة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، كان معمولا به في عهد النبيّ، فكانوا يتبركون بماء وضوئه وثوبه وطعامه وشرابه وشعره وكلّ شيء منه، ولم ينههم النبيُّ عنه. ولعلَّكم تقولون: أجل، كان هذا، وهو معمول به الآن بالنسبة إلى الأحياء من الأولياء والأتقياء (كما شاهدت أصحابكم يتبركون بطعامكم) لكنه خاص بالأحياء، دون الأموات، لعدم وجود دليل على جوازه إلاّ في حال الحياة بالذات. فأقول: هناك بعض الآثار تدل على أن الصحابة قد تبركوا بآثار النبيّ بعد مماته، فعن عبد الله بن عمر، أنه كان يمسح مِنبراً للنبي تبركاً به. وهناك شواهد، على أنهم كانوا يحتفظون بشَعر النبيّ، كما كان الخلفاء العباسيون، ومَن بعدهم العثمانيون، يحتفظون بثوب النبيّ تبركاً به، ولا سيما في الحروب، ولم يمنعهم أحد من العلماء الكبار والفقهاء المعترف بفقههم ودينهم.

وهنا يعجبني أن ألخِّص لسماحتكم كلام الأستاذ الدكتور سعيد رمضان العالم السوري ـ حفظه الله ـ في هذا المجال نقلا عن كتابه (فقه السنة) فإنه بعدما أشار إلى شطر مما يدل على جواز التوسل بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبآثاره، قال: «وليس ثمة فرق بين أن يكون ذلك في حياته أو بعد وفاته. فآثار النبي لا تتصف بالحياة مطلقاً»، سواء تعلق التبرك والتوسل بها في حياته أو بعد وفاته، كما ثبت في صحيح البخاري في باب شيب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

ومع ذلك، فقد ضلَّ أقوام لم تشعر أفئدتهم بمحبة رسول الله، وراحوا يستنكرون التوسل بذاته بعد وفاته، بحجة أن تأثير النبيّ قد انقطع بوفاته، فالتوسل به إنما هو توسل بشيء لا تأثير له البتة.

وهذه حجة تدل ـ كما ترى ـ على جهل عجيب جداً ... فهل ثبت لرسول الله تأثير ذاتي في الأشياء حال حياته، حتى نبحث عن مصير هذا التأثير من بعد وفاته؟

إن أحداً من المسلمين لا يستطيع أن ينسب أيّ تأثير ذاتي في الأشياء لغير الواحد الأحد ـ جلّ جلاله ـ ومَن اعتقد خلاف هذا يكفر بإجماع المسلمين كلّهم.

فمناط التبرك والتوسل به أو بآثاره ليس هو إسناد أي تأثير إليه ـ والعياذ بالله ـ وإنما المناط كونه أفضل الخلائق عند الله على الإطلاق وكونه رحمة من الله للعباد، فهو التوسل بقربه إلى ربّه وبرحمته الكبرى للخلق.

وبهذا المعنى كان الصحابة يتوسلون بآثاره و... من دون أن يجدوا فيه أي إنكار. وقد مرّ في هذا الكتاب (أي فقه السنة) بيان استحباب الاستشفاع بأهل الصلاح والتقوى وأهل بيت النبوة في الاستسقاء وغيره، وإن ذلك مما أجمع عليه جمهور الأئمة والفقهاء بما فيهم الشوكاني وابن قدامة الحنبلي والصنعاني وغيرهم.

والفرق بعد هذا بين حياته وموته خلط عجيب وغريب في البحث لا مسوِّغ له، انتهى موضع الحاجة1.

هذا كله بالنسبة إلى التبرك بآثار النبيّ حيّاً وميّتاً، وأما التوسل بذاته أو بأحد من أهل بيته فهو كذلك، كما رأينا في مطاوي كلام الدكتور، وكان معمولا به حتى بعد وفاته كما استسقى عمر بن الخطاب متوسلا بعمّ النبي العباس من دون نكير من أحد من أصحابه، ومن دون أن يكون لحياة النبيّ وموته تأثير عنده في جواز التوسل به.

ومردّ ذلك أنّ التبرك بآثار النبيّ والتوسل به وبآثاره وبذريته والأتقياء من أتباعه ليس معناه طلب الحاجة منه أو منها ولا منهم، ولا أن في شيء منها ـ بما في ذلك ذات النبيّ ـ تأثيراً في رفع الحاجات ودفع الملمات أو أنه يضرّ وينفع، كما ورد في مطاوي كلامكم في صدد النهي عنه (أنه لا يضر ولا ينفع)، فهذا تحويل للمسألة عن جوهرها، بل كلّ ذلك يَعدّ إظهار الحبّ للنبيّ وغيره من المقرّبين استجلاباً لرحمة الله ـ تبارك وتعالى ـ لما نعلم من منزلتهم عند الله، استناداً إلى سيرته وسيرة المسلمين، فلا يقاس هذا بعمل المشركين في شأن آلهتهم، حيث كانوا يعتقدون فيها التأثير في دفع الملمات ورفع الحاجات، إما مباشرة أو بالاشتراك مع الله.

كما لا ينبغي الاستشهاد على حرمة التبرّك والتوسّل (بالمعنى المذكور) وكونهما شركاً بما ورد من الآيات إدانة للمشركين، فإن ذلك ليس منه في شيء، والفرق بينهما واضح جليّ، فهذا مظهر من مظاهر الشرك، وذاك مظهر من مظاهر التوحيد وحبّ الله وأوليائه.

بقي هنا أمران:

الأول أن يقول قائل: نحن نسلِّم بجواز التبرك والتوسل للعلماء الذين فهموا جوهر الدين، إلاّ أن ذلك ممنوع على العوام لأنهم سوف يحولونهما إلى الشرك، حيث يعتقدون للنبيّ وآثاره وللأولياء تأثيراً ذاتياً في رفع الحاجات أو دفع المضرّات، فيجب المنع عنهما سدّاً للذرائع.

وهذا ما سمعنا به من الأستاذ الدكتور محمد بن سعد سُوَيْعِر ـ حفظه الله ـ يوم حضرنا عندكم وجلسنا على مائدتكم.

والإجابة على هذا الكلام سهل، فإنه إذا ثبت جواز عمل بل استحبابه بدليل قطعي فلا يجوز المنع عنه بقول مطلق، خوفاً من الجُهّال أن يُحلِّوه إلى ما فيه لون من الشرك، وإلاّ كان ينبغي للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) نهي الناس عن التبرك بآثاره سدّاً للذريعة، كما كان ينبغي له أن يمنع الناس عن زيارة القبور حذراً من أن الجُهّال يتّخذونها صنماً يعبد، أو يمنع من استلام الحجر للسبب نفسه، هذا ليس هو الطريق الوحيد والقول السديد لسدّ الذرائع، بل الطريق هو مراقبة العلماء الذين هم ورثة الأنبياء والذين هم أمناء الله على حلاله وحرامه، فإنهم أمروا بحفظ الناس عن تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين ـ كما جاء في الحديث (معالم الدين ص33 ط1413 هـ . ق) من غير أن يحرِّموا حلالا أو يحلِّلوا حراماً، أو يفرِّقوا في حكم واحد بين العوام والخواص.

الثاني: أن من يجوّز التبرك والتوسل هم جمهور العلماء في قبال جماعة أقل منهم بكثير لا يجوِّزونهما، ولا ريب أن المجوّزين اختاروا الجواز بعد الوقوف على الآراء، وبعد البحث والفحص عن الأدلّة، والاطلاع على ما أبداه الشيخان السلفيّان الشيخ ابن تيمية، والشيخ محمد بن عبد الوهّاب وأتباعهما، فهؤلاء لم يقتنعوا طوال هذه القرون السبعة إلى يومنا هذا بحجج مخالفيهم، فهم مجتهدون، ولكل مجتهد مصيب أجران، وللمخطئ أجر واحد، كما هو ثابت عند الفقهاء، فالمسألة بعد أن عادت خلافية اجتهادية، فهل تسمحون في مثل هذه المسألة، التي جُلُّ العلماء على جوازها وقليل منهم على حرمتها، بنسبة الكفر والشرك بل الفسق والضلال إلى هؤلاء الجمّ الغفير المعترف بفقههم وتقواهم؟ فما هو الفارق إذاً بين القطعيات والظنيات سواء في حقل العقيدة أو في حقل الشريعة؟ إنما الحكم بالكفر ثابت فيمن أنكر ضرورياً من ضروريات الدين ليس إلاّ، دون مسألة خلافية هي معترك الآراء بين الفقهاء.

فأقلّ ما يقال في مثل هذه المسألة الخلافيّة هو الاحتياط بالإمساك عن التقوُّل فيها، حتى ترجع المسألة قطعيّة، والاكتفاء ممن لا يُجوِّزه بالوعظ والإرشاد، إذا رآه شركاً أو بدعة وضلالا، فهذا منتهى المطاف في أداء الواجب من مثله. وقد مرّ بنا أن استهللنا كلامنا بالتقدير لجهودكم في سبيل إرساء أمر التوحيد، وهذا بنفسه سعي مشكور أغتبطكم عليه، لولا أن ينضمَّ إليه إطلاق القول بالشرك أو الكفر فيمن جوَّز هذا العمل عن اجتهاد ونظر، من دون تقليد أعمى، ولا جهل بالكتاب والسنّة وبآراء الفقهاء الموافق منهم والمخالف، هذا أولا.

وثانياً: أحببت الإشارة إلى مسألة أخرى لها أهميتها، وهي ما أفتيتم به حول مسألة فلسطين، حيث تقولون: «إنه يجب على المسلمين وعلى الدول الإسلاميّة والأغنياء والمسؤولين أن يبذلوا جهودهم ووسعهم في جهاد أعداء الله اليهود، أو فيما تيسّر من الصلح إن لم يتيسَّر الجهاد، صُلحاً عادلا يحصل به للفلسطينيين إقامة دولتهم على أرضهم، وسلامتهم من الأذى من أعداء الله اليهود، مثلما صالح النبيّ أهل مكة، وأهل مكة في ذلك الوقت أكثر من اليهود الآن، وإن المشركين والوثنيين أكفر من أهل الكتاب، فقد أباح الله طعام أهل الكتاب والمحصنات من نسائهم، ولم يبح طعام الكفار من المشركين، ولا نسائهم. وصالحهم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) على وضع الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس ويكفّ بعضهم عن بعض، وكان في هذا الصلح خير عظيم للمسلمين، وإن كان فيه غضاضة عليهم بعض الشيء، لكن رضيه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)للمصلحة العامة.

فإذا لم يتيسّر الاستيلاء على الكفرة، والقضاء عليهم، فالصلح جائز لمصلحة المسلمين، وأمنهم وإعطائهم بع