الموضوع: بحوث في التوسل
عرض مشاركة مفردة
  #9  
قديم 22-06-2003, 12:01 AM
البارجة البارجة غير متصل
دكتوراة -علوم اسلامية
 
تاريخ التّسجيل: Jun 2003
المشاركات: 228
إفتراضي



تكملة الرسالة

فإذا لم يتيسّر الاستيلاء على الكفرة، والقضاء عليهم، فالصلح جائز لمصلحة المسلمين، وأمنهم وإعطائهم بعض الحقوق ...»2.

وهذه الفتيا منكم إنما صدرت ولا شك فيها إخلاصاً للإسلام والمسلمين، وحرصاً على إرشاد الأُمّة إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم، إلاّ أنّ فيها بعض الملاحظات، فهي تحتوي شطرين:

الشطر الأول، وجوب حرب اليهود أعداء الله، وبذل الجهود في جهادهم. وهذا ما يوافقكم عليه علماء الإسلام جميعاً شيعة وسنة، ولعلكم لمستم موقف الشيعة في مكّة المكرّمة عبر شعاراتهم، أو سمعتم به عن طريق المذياع أو قرأتم عنه في الجرائد، أنهم أشدّ الناس على الكفّار ولا سيما على اليهود. فهذا حق صريح، ورأيكم حجة على جميع المسلمين حكومات وشعوباً، جزاكم الله عنهم خير الجزاء، وشكر مساعيكم، فقد أدّيتم واجبكم أمام الله ـ تبارك وتعالى ـ وأمام المسلمين قاطبة. وأما الشطر الثاني وهو ما تيسّر من الصلح إن لم يتيسّر الجهاد صلحاً عادلا إلى آخر ما أبديتم من الرأي بإخلاص، فيجب الوقوف عنده طويلا:

لا ريب أن المسألة لو كانت كما اقترحتم وكانت القيود والشروط محقّقة بالشكل الذي قيّدتم، فالحكم هو ما صرّحتم به، إلاّ أنّ المسألة مع الأسف الشديد ليست بهذه السهولة، ومغزى كلامي أنّ البحث ليس في الكبرى من الدليل، وإنما هو في الصغرى، وتوضيحها كما يأتي:

أولا: أنّ الجهاد مع اليهود ميسور وبابه مفتوح بمصراعيه أمام المسلمين، إلاّ أنّ حكّام المسلمين لم يقفوا يوماً، ولا يريدون أن يقفوا أمام العدو بكلّ جهودهم وإمكانيّاتهم، فإنّ العرب طرحوا القضية منذ أربعين سنة ولحد الآن قضية عربية، وليست إسلاميّة، وهذه أول ضربة وجَّهوها إلى القضية، حيث أبعدوا بهذا المشروع العنصري معظم المسلمين عن ساحة المعركة، ولا أقل من أن ذلك أصبح عذراً لأولئك الحكّام الذين لا علاقة لهم بشؤون المسلمين، فكانوا يقولون كما سمعت مراراً من أعوان الشاه في إيران: «هذه مشكلة العرب مع اليهود لا شأن لنا فيها». فلم يكونوا يسمعون صرخات المسلمين والعلماء من أنّها إسلاميّة، بحجَّة أن العرب يعدّونها مسألة عربية.

وأمثال هؤلاء الحكام من العرب وغيرهم لا يزالون لا يطيقون استماع صرخات هؤلاء الشباب والأطفال المحاربين بالحجارة داخل الأرض المحتلة وهتافاتهم: (الله أكبر) (نحن مسلمون) ولا أن يروا في التلفزة صَلاتهم حول المسجد الأقصى; لأن ذلك يمثِّل إسلاميةَ القضية فتأخذ العذر من أيديهم.

ثانياً: حتى العرب أنفسهم الذين احتكروا المسألة بحجِّة أنها عربية، وأنها مسألتهم من دون سائر المسلمين لا يتّفقون على كلمة واحدة، ولم يجهّزوا إمكانياتهم أمام العدو، ولم يقفوا صفّاً واحداً، فبدلا من ذلك كلّه، افترقوا أحزاباً وشعوباً يهاجم بعضهم بعضاً، عسكرياً وإعلامياً، لا لشيء إلاّ لمصالحهم ولمصالح العدو، فلم يجهّزوا أنفسهم للمعركة لا هم ولا سائر المسلمين ولم يمتثلوا أمر ربّهم: {وأعدّوا لهم ما استطعتُم من قوّة ومن رِباطِ الخيل تُرهِبون به عدوّ الله وعدوَّكم}3 عندهم البترول الذي هو شريان حياة الأعداء، فلم يستفيدوا من هذه القوة الهائلة التي هي أقوى بكثير من رباط الخيل ومن أيّ قوة تُوجد في العالم.

كما أنّهم لم يهتمّوا بقول ربّهم: {يا أيّها الذين آمنوا لا تتّخذوا اليهود والنصارى أولياء}4 وما بمعناه في الكتاب والسنة.

فمن الذي منهم لا يتَّخذ أعداء الله أولياء، ولا يميل إلى اليمين والشمال (وقد سقط بحمد الله) ولا يعتمد ولا يستنصر بالأعداء (سوى النزر اليسير) ولا يركع لصنم منهم ولا يسجد، وبعضهم لا يأكل ولا يشرب إلاّ بإذنه؟

ومن خفي عليه هذا فليس له الدخول في المعارك السياسية وإظهار الرأي فيها.

والعجب كلَّ العجب صَمْتُ بعض العلماء عن هؤلاء الحُكَّام الرُّكع السجود أمام الأصنام والطواغيت، ثم ينادي ويحكم بكفر وشرك أولئك المسلمين المساكين، الذين بذلوا كلّ ما عندهم، وتحمّلوا المشاقَّ، وجاءُوا من كلّ فجّ عميق، حتى نالوا بزيارةَ النبيّ، وقلوبهم ملئت بحبِّه، فقبّلوا الباب والشبّاك حبّاً له، ورجاء التقرّب إلى الله بحبّه، ويرون هذا منتهى أملهم من الحياة، فإذا بعالم أو مسؤول سكت عن ذلك الشرك الكبير وعن هؤلاء الأبالسة الكبار، يضربه بالسياط ويشتمه بقوله: (هذا شرك، هذا كفر) ولم يعتقد هذا القائل إلاّ أنه كلّ واجبه، أَليس هذا إبعاداً للمسلمين المخلصين عن الدين، وعن ساحة القتال ضدّ اليهود وضدّ سائر أعداء الدين؟ فإنه إذا كان كافراً ومشركاً، فلماذا يُضحِّي بنفسه في المعركة في سبيل الإسلام؟

وأنا أقول بصراحة: لو أن العلماء ومن ورائهم (بل ومن فوقهم!) الحكّام لم يخطِئوا الطريق، واستقرُّوا على الصراط القويم، لأمكن لهم تجهيز ملايين من الشبّان المسلمين الغيارى على الإسلام الذائبين في حبّ النبيّ محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ليقفوا سداً منيعاً ضدّ اليهود ومطامعهم، ولو تحقّق هذا الحُلُم يوماً ما لرأينا كلمة الله هي العليا، وأن الله يحقّق وعده: (إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم)5.

ثالثاً: الاستشهاد للصلح مع اليهود بمثل ما صالح النبيُّ أهل مكة والمشركين عجيب وقياس مع الفارق، وفيه وجوه من الخلط والتمويه:

1 ـ إنّ النبيَّ صالح أهل مكة من موقف القوّة دون الضعف كما قال تعالى: {وهو الذي كفَّ أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكّة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيراً}6 مع أنّ حكّام العرب حينما يريدون أن يساوموا على الصلح مع العدوّ، إنما هم في منتهى الضعف (ولا سيما بعد حرب الخليج) سياسيّاً وعسكريّاً. والشيطان الأكبر الحامي لإسرائيل رَسَتْ أقدامه على أرضهم بكلّ ما له من العُدَّة والعَدَد، وله حقُّ الحياة والبقاء على جملة من الحُكّام، فهم عبيد في قبضته، وليس لهم إلاّ أن يركعوا ويسجدوا أمامه آناء الليل والنهار، وأنهم ليبذلون أموال المسلمين وشعوبهم المساكين إلى الكفار بالمجان، لا لشيء سوى للحفاظ على مناصبهم، فهم راكبون أعناق الشعوب، راكعون أمام الأعداء. «أسدٌ عليّ وفي الحروب نُعامة». وفي مثل هذه الحالة يريدون أن يجلسوا مع العدوّ حول طاولة المفاوضة للسلام العادل!

ومن الدليل على ضعف المشركين وقوّة المسلمين في الحُديبية قول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لرسول المشركين عنده (بُديْل بن وَرقاء الخُزاعي): «إنّ قريشاً قد أنهكتهم الحرب، وأخذت بهم فإن شاءُوا ماددتُهم مدَّة ويخلّوا بيني وبين الناس ... إلى أن قال: فإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأُقاتلنَّهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي وليُنفذ الله أمره».

ثم إن مبايعة المسلمين له على الحرب والتضحية بالنفس والمال كان استعداداً كاملا للحرب.

ثم إن عروة بن مسعود رسول المشركين الآخر لديه حينما رجع إلى المشركين قال لهم: «فوالله ما تنخَّم رسول الله نُخامةً إلاّ وقعت في كفّ رجل منهم فدلك بها وجهه وجِلده، وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره، وإذا توضّأ كادو يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون النظر إليه تعظيماً له، إلى أن قال: أي قوم، لقد وَفدتُ على الملوك ووَفَدتُ على قيصر وكسرى والنّجاشي، والله ما رأيتُ ملكاً «يُعظِّمه أصحابه ما يُعظِّم أصحاب محمد محمداً! وأنه قد عرض عليكم خِطّة رشد فاقبلوها ...» رواه البخاري ومسلم بتفاوت.

2 ـ إنّ اليهود ليسوا وحدهم الذين يحاربون شعب فلسطين، بل وقف إلى جنبهم الطواغيت الدولية، الذين غرسوا هذه الشجرة الخبيثة في أرض الإسلام، وهم الذين يحاربون الإسلام والمسلمين من أول يوم، فكيف نغفل عنهم ونعدُّ الحرب حرباً بين اليهود والعرب أو المسلمين، فندخل في الصلح معهم; لأنهم أقل من المشركين؟

وهؤلاء الطواغيت، ولا حتى اليهود الذين استولوا على أرض فلسطين ليسوا بأهل كتاب، وإنما هم ملاحدة، دينهم الدولار، وأمنيتهم الاستيلاء على ثروات الأرض، فإنّ اليهود في فلسطين معظمهم صهاينة ليسوا بأهل كتاب ولا أهل دين، بل هم حزب سياسي عنصري.

على أن اليهود في العالم يعدّون بعشرات الملايين، وكلّهم مع يهود فلسطين، وبيدهم ثروات هائلة، وفي قبضتهم السُّوق العالمي والمصانع والسُّفن والأسلحة، ووسائل الإعلام العالمي، فكيف يجوز أن يقال: إنّ اليهود اليوم أقل من أهل مكة في ذلك اليوم؟

فيجب علينا إذاً أن نضع هذه الأشياء في الميزان ثُمّ نحكم بالصلح، وبدونها لن يتحقَّق صلح عادل.

3 ـ إنّ الصلح كان مع أهل مكّة بأمر من الله من دون مشورة المؤمنين، بل كان أكثرهم قاوموا النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أمام عقد الصلح وعند بعض بنوده، حتى أنزل الله سورة الفتح وكشف النقاب عن وجه الصلح، وعدَّه فتحاً مبيناً، ومع ذلك لم يعترف كثير منهم في صميم قلوبهم، وباقتناع نفسي منهم، بأنه كان خيراً، حتى رأوا النتيجة ماثلة أمامهم بعد مدَّة.

4 ـ كانت هناك حِكم وأسباب جاءت في سورة الفتح تصريحاً أو إيماءً، كالحفاظ على المؤمنين والمؤمنات القاطنين بمكّة يومئذ، الذين لم يعرف أشخاصهم، وكالحصول على الأرضية المناسبة لاختلاط المسلمين بالمشركين، وتبيين الإسلام لهم وتحويل قلوبهم صوب المسلمين، وغير ذلك ممّا صرّحتم به في مقالكم، ويعلم بالتدبر في سورة الفتح، وفي الحوادث التي حدثت عقيب الصلح، ولا يوجد شيء من هذه الحِكم والأسباب في الصلح مع اليهود الآن، بل الأمر بالعكس كما سنوضِّح.

5 ـ اليهود بما أعدُّوا واستعدّوا للمعركة الصارمة، كانوا معتمدين على تلك القوى العالميّة الشيطانية، وهم قادرون بما عندهم على أن يقضوا على الشعب الفلسطيني، وعلى مَن جاورهم من الشعوب، ولا سيما القاطنين في أرض الجزيرة العربية التي لليهود فيها مطامع تاريخية: كأراضي بني النضير وبني قريظة وأراضي خيبر وغيرها، في طرفة عين، ولعلّهم يفعلونها يوماً من الأيام (لا قدّر الله هذا اليوم) فهم حينما يفاوضون العرب من أجل السلام، لم يقصدوا السلام، ولم يكن خوفاً من العرب، إنما يريدون أن يسيطروا على أراضيهم وثرواتهم برفق وبرضاً منهم أو من حكّامهم; ليتدخلوا في شؤونهم ثقافياً واقتصادياً وسياسياً، وليكونوا أحراراً فيما يعملون في تلك البقاع، ويتَّخذوا من تلك الشعوب أداة لبسط سلطانهم عليهم وعلى العالم الإسلامي كلّه، ويتعاملوا معهم معاملة السيّد مع عبيده، والملك مع رعيته طوال الدهر. وبالتالي يكون الصلح المنشود هو الطريق الوحيد للوصول إلى مطامعهم، حتى إنهم يُمهِّلون أمر الصلح عمداً، ويسوِّفونه قصداً، لإرضاء النفوس شيئاً فشيئاً، حتى يقتنعوا بأنه لا طريق للاخلاص سوى الصلح والسلام.

مع أن مثل هذا الصلح هو الرصاصة الأخيرة لسقوط هذهِ الشعوب، ثم لسقوط العالم الإسلامي والمسلمين في أيدي اليهود. فأين الصلح العادل؟ ليس هذا سوى الاستسلام المطلق دون السلام العادل.

ثمّ إنّ اليهود، متى التزموا بعهودهم طوال دهرهم خاصة في فلسطين لكي نثق بهم؟ وأخيراً لو فرضنا حصول كلّ هذه الشروط والقيود، فإنّ الحُكّام لانثق بهم، وسوف يتَّخذون من هذه الفتيا ذريعةً لإلباس الأمر على الشعوب، وسيفاوضون العدوَّ في صالحهم أكثر من صالح الشعوب، وسيكون هذا الحكم من سماحتكم مبدأ شرعيَّة اليهود، وشرعيَّة عمل الحكّام الذين أجروا عقد الصلح ومفاوضة السلام معهم.

فإيّاكم أن تجعلوا رقبتكم قنطرةً لهؤلاء، والصواب هو الاكتفاء منكم بالشطر الأوّل من الفتيا، والانصراف عن الشطر الثاني فوراً، والمرجوُّ منكم أخذ هذه السطور بعين الاعتبار، ثمّ الإجابة عليها، فإنّي ما أردتُ إلاّ الإصلاح ما استطعتُ، والله من وراء القصد، والسلام عليكم ورحمة الله.