مقدمة: إن الإمبريالية وأعوانها والمغشوشين بها يضعون الديموقراطية كبديل ونقيض للتحرر الوطني. وأنصار الدكتاتورية والقمع والفساد وتحويل البلاد و"العباد" إلى مزرعة عائلية وسجن كبير ومسالخ بشرية، وحاشية ومداحين وخدم وحشم وأقنان، يضعون التحرر كبديل ونقيض للديمقراطية الشعبية الحقيقية. ولكن التاريخ يثبت انه لا تحرر حقيقي بدون ديمقراطية، ولا ديمقراطية حقيقية بدون تحرر. والقوى الوطنية التي وصلت إلى الحكم قد انتكست وارتكست و"خربت البيت" العربي، لأنها عجزت عن حل مسألة العلاقة العضوية بين التحرر والديموقراطية. ومع كل ذلك فإن المسؤولية التاريخية الرئيسية تقع على عاتق الإمبريالية، التي تتعامل بنذالة وعنف ووحشية مع البلدان المتحررة، فتسهم في ذلك في تشجيع المناخات المرضية الآيلة إلى القمع والاستبداد والدكتاتورية.
المحنة العراقية والامتحان العربي
منذ اكثر من عشرين عاما والعراق يعيش محنة طاحنة، هي من اقسى المحن التي تعرضت لها الامة العربية في تاريخها الحديث. وقد تبدت هذه المحنة حتى الآن، في وجهها الخارجي، في أربع مراحل، أو حلقات خانقة، هي: الحرب العراقية ـ الايرانية؛ الدخول العراقي للكويت؛ الحرب الاميركية المدمرة ضد العراق، المسماة "عاصفة الصحراء"؛ والحصار الاسود الظالم على الشعب العراقي.
وقد أسفرت هذه المحنة إلى اليوم عن:
ـ اكثر من مليوني شهيد في الجانب العراقي وحده، ناهيك عن ملايين الجرحى والمعاقين والاسرى والمرضى، وعن الدمار والتقهقر الاقتصادي المريع، وتشريد اكثر من اربعة ملايين عراقي (عربي وكردي) اصبحوا لاجئين خارج العراق؛
ـ كسر وحدة الدولة العراقية، ممثلا بـ"الاستقلال" الواقعي لمنطقة كردستان العراق؛
ـ الحد من السيادة الوطنية للعراق، عبر ما يسمى "مناطق حظر الطيران"، وخاصة عبر إجبار العراق على الحد من تسلحه، والرضوخ للتفتيش الدولي عما يسمى "اسلحة الدمار الشامل"، في الوقت ذاته الذي تطلق فيه يد "إسرائيل" كليا في حقل التسلح؛
ـ واخيرا لا آخرا حفر خندق عميق من عدم الثقة في العلاقات العربية والاقليمية للدولة العراقية، ولا سيما مع ايران والكويت، شعبيا ورسميا، وهو خندق من الصعب جدا ردمه في الاوضاع الراهنة، بغض النظر عن هوية الطرف الذي يتحمل المسؤولية عن نشوء هذه المشكلة.
الستراتيجية الإمبريالية
وخلافا لكل تفسير ذاتي وحيد النظر او مغرض، ولا سيما في اوساط أخصام النظام العراقي، فإن المسؤولية الاساسية الاولى لهذه المحنة، بكل حلقاتها بدون استثناء، انما تقع بالدرجة الاولى على الستراتيجية العامة للامبريالية العالمية، وعلى رأسها الاميركية. فهذه الستراتيجية، التي تتوجه بالمصالح الضيقة للاحتكارات الكبرى، لا تزال تمتلك مقدرات قوية للتلاعب بمصائر جميع الشعوب، رأينا بعض نتائجها في الانهيار المريع "الداخلي!" للمنظومة السوفياتية، والتعامل المنحط مع "حطام دول" تلك المنظومة بعد الانهيار.
وخلافا لكل البراقع والازياء "الديموقراطية" و"الشرعية الدولية"، الكاذبة والمنحازة، من جهة، والاستعدادات والقدرات الحربية الهائلة، من جهة ثانية، فإن الستراتيجية الامبريالية تنبني، بالدرجة الاولى، على مؤامرات ودسائس "الدبلوماسية السرية"، التي تقوم احدى ركائزها الاساسية على سياسة "فرق تسد" الاستعمارية القديمة المجربة، التي عملت المستحيل لتحقيق التهديم الداخلي لاستقلال ونهضة الدول المتحررة حديثا بعد الحرب العالمية الثانية، عن طريق "رعاية" وزرع الفتن والنزاعات الداخلية والاقليمية. والعراق وايران وغيرهما من الدول العربية والاسلامية، بالرغم من كل الادعاءات الفولكلورية الفارغة، المخصصة للاستهلاك المحلي الرخيص، من قبل هذه وتلك من القيادات "الحكيمة" و"الملهمة" و"الخالدة"، لا تشذ ابدا عن هذه القاعدة، بل هي كانت ولا تزال "تحت الرعاية!" اكثر من غيرها بكثير.
وهذه الحقيقة الاساسية لا تبرّئ أيا من القيادات القطرية، وأخصامها الداخليين والاقليميين، ومنها القيادة العراقية وأخصامها معا، من مسؤولياتهم التاريخية. فالدبلوماسية السرية الامبريالية لم تكن تفعل سوى ان "تحك على الجرب" حيثما يوجد، متصيدة الخلافات والنزاعات والاخطاء والانحرافات والمفاسد والميول المريضة، حيثما تكون، لتوظيفها في مخططاتها، "مع الجميع!" ضد الجميع.
حقيقة المواجهة
والمواجهة الاميركية ـ العراقية الحالية هي حلقة اخرى، ولكنها ليست الاخيرة، في المحنة العراقية.
ولكن هذه الحلقة الجديدة تحمل خصوصية نوعية، تميزها عن الحلقات السابقة، وهي أنها تهدد بإعادة العراق إلى ما قبل فجر 14 تموز 1958. أي انها تحمل خطرا جديا مباشرا على الاستقلال الوطني للعراق، يهدد بتحويله من جديد إلى منطقة احتلال، او وصاية، للامبريالية الاميركية و"حلفائها"، وإلى "مقر وممر" لاستعمار البلاد العربية، كما كان في العهد الملكي ـ السعيدي البائد، و"حلف بغداد" المشؤوم.
وهذا ما يجعل من المحنة العراقية الحالية امتحانا حقيقيا ليس للعراق وحده، بل وللأمة العربية قاطبة، شعوبا ودولا.
وبكلمات اخرى فإن المواجهة الاميركية ـ العراقية الحالية هي في حقيقتها مواجهة اميركية ـ عربية شاملة، تتجاوز "أخطاء" النظام العراقي، واحداث 11 ايلول في اميركا وما تلاها، التي هي كلها لا اكثر من ذرائع موضعية وظرفية، تماما كالذرائع الصهيونية التي لا تنتهي، الهادفة إلى تكريس وجودها العدواني، وتبرير احتلالها فلسطين والاراضي العربية الاخرى. ولو لم يكن الامر كذلك، لترك لهيئة الامم المتحدة ان تعالج مسائل الارهاب وخرق القانون الدولي الخ. ولكن الادارة الاميركية، بالشراكة الكاملة مع الصهيونية العالمية، تصر على تحدي ارادة المجتمع الدولي، وعلى دوس جميع الاعراف والقوانين الدولية، لفرض ارادتها ومصالحها الامبريالية على فلسطين والعراق والامة العربية جمعاء.
العداء المتأصل للعرب
وهذه المواجهة لا تعود إلى الفترة الأخيرة وحسب. إذ ان الامبريالية الاميركية تتحفز لتحقيق مخططاتها، منذما نابت عن بريطانيا العظمى في الاحتضان الكامل ل"إسرائيل"، وتبنت "حلف بغداد"، وطرحت نظرية "ملء الفراغ" لايزنهاور، غداة العدوان الثلاثي على مصر في 1956.
وإذا كانت ظروف المواجهة الاميركية ـ العربية الشاملة تتجه اليوم اكثر فأكثر نحو "الانضاج" المتعمد، بعد انتخاب جورج بوش الابن، فهذا لا ينفي بل يؤكد ان حتمية هذه المواجهة لا تعود فقط إلى نصف القرن الماضي، بل هي تكمن، كالقدر المحتوم، في الجينة التكوينية الاساسية للدولة الاميركية، منذ نشأتها.
فإن ننسى لا ننسى انه منذ سقوط الأندلس، في بدايات "المد" الاستعماري الكلاسيكي بعد "جزر" الحروب الصليبية، وجه الغرب الاستعماري بعثاته الاستكشافية لتجربة الالتفاف حول الكرة الارضية (مع التغاضي من قبل البابوية التي كانت "تكفـّر" نظرية كروية الارض). وكان الهدف الرئيسي هو اكتشاف طريق الهند، بقصد استكمال الكماشة، للاطباق على العرب من الشرق والغرب معا. وقد تم "اكتشاف" اميركا بفعل هذه "الصدفة التاريخية!" للمخططات الاستعمارية ضد الشرق العربي ـ الإسلامي. وكان من الطبيعي، بمنطق وبفعل هذه "الصدفة التاريخية!" بالذات، ان تتحول "الجزيرة الاميركية" إلى القاعدة الرئيسية للامبريالية العالمية.
وإذا كان الاستعمار العثماني، قد وفى بمهمة اخضاع البلاد العربية في القرون الماضية، لصالح الاستعمار الاوروبي الغربي التقليدي، ومهد الطريق له، فمن الطبيعي، بعد انحساره، ان تأخذ الامبريالية الاميركية على عاتقها المهمة التي وجدت بسببها، وهي مهمة "استكمال رحلة كولومبوس!".
وها هي اليوم، بعد ان عززت نفوذها في الهند، وحطت اقدامها في اسيا الوسطى والقوقاز، واحتلت افغانستان، تتهيأ للانقضاض على العرب، ووضعهم مرة اخرى تحت الوصاية الاستعمارية لتركيبة مختلطة من "روما" جديدة و"باب عال" جديد.
مركز التوازن الحضاري العالمي
وحتمية المواجهة الاميركية ـ العربية تنشأ عن خصوصية تميزها عن اي مواجهة للامبريالية في اي بقعة اخرى من العالم، مهما عظمت اهمية تلك البقعة.
فلقد شاء "القدر التاريخي":
1 ـ ان تكون المنطقة العربية، بأرضها وبحارها وموقعها:
أ) مخزنا لا ينضب للثروات الطبيعية؛
ب) الرقعة الستراتيجية الرئيسية التي يلتقي عندها الشرق والغرب، الشمال والجنوب، وبالتالي المنطقة الرئيسية للتقاطع العالمي لخطوط الاتصالات والمواصلات، بكل وجوهها الحضارية، الاقتصادية والعسكرية، قديما وحديثا.
2 ـ ان تتكون الامة العربية، كحصيلة حضارية لاعنصرية، في وسط العالم هذا، الذي يمثل منطقة الاعتدال، ومركز التوازن، الطبيعي والانساني، بين جميع الشعوب. وبحكم هذا التكوين:
أ) أن تكون الأمة العربية بمثابة البوتقة الحضارية الأولى، التي تمخضت عن الابجدية، والارقام، والعلوم الاساسية، والرسالات "السماوية"، والتي انبثقت عنها بالتالي ابجديات الحضارة الانسانية الشاملة.
ـ وأن تكون في المحصلة، في سياق المنطق الحضاري للتاريخ والجغرافيا، المعادل الانساني العام للتوازن الحضاري العام للعالم.
ولكن هذا المعادل سقط، واختل من ثم هذا التوازن، وفتح الباب على مصراعيه لهمجية الاستعمار الغربي، منذ ان سقطت الارض العربية المقدسة تحت قوائم "الفتح العثماني" الانحطاطي، الذي جاء بالامتيازات الاجنبية، ولم يكن شيئا آخرا، في محصلة الحساب، سوى "حملة صليبية تاسعة" برايات "اسلامية!".
وكان التحرر من "الاستعمار العثماني" المباشر شرطا ذاتيا للامة العربية، للنهوض نحو استعادة دورها التاريخي، ومقدمة ضرورية لم يكن من الممكن بدونها التحرر من الاستعمار الغربي التقليدي "الاصيل"، بمختلف هوياته الاوروبية، الذي أناخ على الارض العربية، خلال وبعد انهيار "وكيله" العثماني.
__________________
البارجة هي استاذة فلسفة علوم اسلامية ,
إلى الكتاب و الباحثين
1- نرجو من الكاتب الإسلامي أن يحاسب نفسه قبل أن يخط أي كلمة، و أن يتصور أمامه حالة المسلمين و ما هم عليه من تفرق أدى بهم إلى حضيض البؤس و الشقاء، و ما نتج عن تسمم الأفكار من آثار تساعد على انتشار اللادينية و الإلحاد.
2- و نرجو من الباحث المحقق- إن شاء الكتابة عن أية طائفة من الطوائف الإسلامية – أن يتحري الحقيقة في الكلام عن عقائدها – و ألا يعتمد إلا على المراجع المعتبرة عندها، و أن يتجنب الأخذ بالشائعات و تحميل وزرها لمن تبرأ منها، و ألا يأخذ معتقداتها من مخالفيها.
3- و نرجو من الذين يحبون أن يجادلوا عن آرائهم أو مذاهبهم أن يكون جدالهم بالتي هى أحسن، و ألا يجرحوا شعور غيرهم، حتى يمهدوا لهم سبيل الاطلاع على ما يكتبون، فإن ذلك أولى بهم، و أجدى عليهم، و أحفظ للمودة بينهم و بين إخوانهم.
4-من المعروف أن (سياسة الحكم و الحكام) كثيرا ما تدخلت قديما في الشئون الدينية، فأفسدت الدين و أثارت الخلافات لا لشىء إلا لصالح الحاكمين و تثبيتا لأقدامهم، و أنهم سخروا – مع الأسف – بعض الأقلام في هذه الأغراض، و قد ذهب الحكام و انقرضوا، بيد أن آثار الأقلام لا تزال باقية، تؤثر في العقول أثرها، و تعمل عملها، فعلينا أن نقدر ذلك، و أن نأخذ الأمر فيه بمنتهى الحذر و الحيطة.
و على الجملة نرجو ألا يأخذ أحد القلم، إلا و هو يحسب حساب العقول المستنيرة، و يقدم مصلحة الإسلام و المسلمين على كل اعتبار.
6- العمل على جمع كلمة أرباب المذاهب الإسلامية (الطوائف الإسلامية) الذين باعدت بينهم آراء لا تمس العقائد التي يجب الإيمان
|