(2) اللمحة الإعجازية الثانية:
وتتضح من وصف الحركة في السماء بالعروج: فظلوا فيه يعرجون, والعروج لغة هو سير الجسم في خط منعطف منحن, فقد ثبت علميا أن حركة الأجسام في الكون لايمكن أن تكون في خطوط مستقيمة, بل لابد لها من الإنحناء نظرا لإنتشار المادة والطاقة في كل الكون, وتأثير كل من جاذبية المادة( بأشكالها المختلفة) والمجالات المغناطيسية للطاقة( بتعدد صورها), علي حركة الأجسام في الكون, فأي جسم مادي مهما عظمت كتلته أو تضاءلت لايمكنه التحرك في الكون إلا في خطوط منحنية وحتي الأشعة الكونية علي تناهي دقائقها في الصغر( وهي تتكون من اللبنات الأولية للمادة مثل البروتونات والنيوترونات والإليكترونات), فإنها إذا عبرت خطوط أي مجال مغناطيسي فإن هذا المجال يحني مسار الشعاع بزاوية قائمة علي مساره.
فإنتشار كل من المادة والطاقة في الكون عبر عملية الفتق وماصاحبها من إنفجار عظيم كانت من أسباب تكوره, وكذلك كان إنتشار قوي الجاذبية في أرجاء الكون من أسباب تكور كل أجرامه, وكان التوازن الدقيق الذي أوجده الخالق العظيم بين كل من قوي الجاذبية والقوي الدافعة الناتجة عن عملية الفتق هو الذي حدد المدارات التي تتحرك فيها كل أجرام السماء, والسرعات التي تجري بها في تلك المدارات والتي يدور بها كل منهم حول محوره.
فعند إنفجار الجرم الكوني الأول إنطلق كل ماكان به من مخزون المادة والطاقة بالقوة الدافعة الناتجة عن ذلك الانفجار العظيم( عملية الفتق) والتي أكسبت كل صور المادة والطاقة المنطلقة إلي فسحة الكون طاقة حركة هائلة, وجعلتها بذلك واقعة تحت تأثير قوتين متعارضتين هما قوة التجاذب الرابطة بينها, والقوة الطاردة الناتجة عن ذلك الإنفجار الكوني, والتوازن الدقيق بين هاتين القوتين المتعارضتين هو الذي يحفظ أجرام السماء في مداراتها, ويجعلها تتحرك فيها حركة دائرية بخطوط منحنية بإستمرار, كما جعلها تدور حول محاورها بسرعات محددة.
ودوران الأجرام السماوية حول محاورها وفي مداراتها تخضع لقانون يعرف باسم قانون بقاء التحرك الزاوي أو قانون العروج وينص هذا القانون علي أن كمية التحرك الزاوي لأي جرم سماوي تقدر علي أساس نسبة سرعة دورانه حول محوره إلي نصف قطره علي محور الدوران, وتبقي كمية التحرك الزاوي تلك محفوظة في حالة إنعدام مؤثرات أخري, ولكن إذا تعرض الجرم السماوي إلي مؤثرات خارجية أو داخلية فإنه سرعان ما يكيف حركته الزاوية في ضوء التغيرات الطارئة. فعلي سبيل المثال تزداد سرعة التحرك الزاوي للجرم كلما إنكمش حجمه, وكما سبق وأن ذكرنا فإن جميع الأجرام الأولية قد تكثفت مادتها علي مراحل متتالية من سحابة الدخان الكوني التي نتجت عن إنفجار الجرم الابتدائي الذي حوي كل مادة وطاقة الكون, تاركة كميات هائلة من الغازات والغبار والأشعات الكونية, وعلي ذلك فقد كانت الكواكب الإبتدائية ـ علي سبيل المثال أكبر حجما بمئات المرات من الكواكب الحالية, وكانت أرضنا الإبتدائية مائتي ضعف حجم الأرض الحالية( علي الأقل), وهذه الكواكب الابتدائية أخذت في التكثف علي مراحل متتالية حتي وصلت إلي صورتها الحالية.
وبمثل عملية نشأة الكون تماما وبالقوانين التي تحكم دوران أجرامه حول محاورها, وفي مدارات لكل منها حول جرم أكبر منه تتم عملية اطلاق الأقمار الصنعية ومراكب الفضاء من الأرض إلي مدارات محددة حولها, أو حول أي من أجرام مجموعتنا الشمسية, أو حتي إلي خارج حدود المجموعة الشمسية, وذلك بواسطة قوي دافعة كبيرة تعينها علي الإفلات من جاذبية الأرض, من مثل صواريخ دافعة تتزايد سرعتها بالجسم المراد دفعه إلي قدر معين من السرعة, ولما كانت الجاذبية الأرضية تتناقص بزيادة الارتفاع عن سطح الأرض, فإن سرعة الجسم المرفوع إلي الفضاء تتغير بتغير ارتفاعه فوق سطح ذلك الكوكب, وبضبط العلاقة بين قوة جذب الأرض للجسم المنطلق منها إلي الفضاء والقوة الدافعة لذلك الجسم( أي سرعته) يمكن ضبط المستوي الذي يدور فيه الجسم حول الأرض, أو حول غيرها من أجرام المجموعة الشمسية أو حتي إرساله إلي خارج المجموعة الشمسية تماما, ليدخل في أسر جرم أكبر يدور في فلكه.
وأقل سرعة يمكن التغلب بها علي الجاذبية الأرضية في اطلاق جرم من فوق سطحها إلي فسحة الكون تسمي باسم سرعة الإفلات من الجاذبية الأرضية, وحركة أي جسم مندفع من الأرض إلي السماء لابد وأن تكون في خطوط منحنية وذلك تأثرا بكل من الجاذبية الأرضية, والقوة الدافعة له إلي السماء, وكلتاهما تعتمد علي كتلة الجسم المتحرك, وعندما تتكافأ هاتان القوتان المتعارضتان يبدأ الجسم في الدوران في مدار حول الأرض مدفوعا بسرعة أفقية تعرف باسم سرعة التحرك الزاوي أو سرعة العروج والقوة الطاردة اللازمة لوضع جرم ما في مدار حول الأرض تساوي كتلة ذلك الجرم مضروبة في مربع سرعته الأفقية( المماسة للمدار) مقسومة علي نصف قطر المدار( المساوي للمسافة بين مركزي الأرض والجرم الذي يدور حولها), ولولا معرفة حقيقة عروج الأجسام في السماء لما تمكن الإنسان من اطلاق الأقمار الصنعية, ولا استطاع ريادة الفضاء. فقد أصبح من الثابت أن كل جرم متحرك في السماء ـ مهما كانت كتلته ـ محكوم بكل من القوي الدافعة له وبالجاذبية مما يضطره إلي التحرك في خط منحن يمثل محصلة كل من قوي الجذب والطرد المؤثرة فيه, وهذا ما يصفه القرآن الكريم بالعروج, وهو وصف التزم به هذا الكتاب الخالد في وصفه لحركة الأجسام في السماء في خمس آيات متفرقات وذلك قبل ألف وأربعمائة سنة من اكتشاف الإنسان لتلك الحقيقة الكونية المبهرة علي النحو التالي:
(1).. { ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون } .. ( الحجر:14)
(2) .. {يدبر الأمر من السماء إلي الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون } .. (السجدة:5)
(3) .. {يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور} .. (سبأ:2)
(4) .. {ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون } .. (الزخرف:33)
(5).. { يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير} .. ( الحديد:4 )
(6) .. {من الله ذي المعارج* تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة } .. (المعارج:4,3)
.. يتبع ..