لقد استطاع "الدكتور" أن ينتصر.. تركني أحارب نفسي بنفسي.. بل جعلني أتابع مسيرة التوحيد مع شيخها محمد بن عبد الوهاب، وأشفق عليه من المؤامرات التي تُحاك ضده، وحوله، وكيف أنه حيما أقام الحد على المرأة التي زنت في (العُيينة).. غضب حاكم "الإحساء" (سليمان بن محمد بن عبدالعزيز الحميدي) واستشعر الخطر من الدعوة الجديدة وصاحبها.. فكتب إلى حاكم العيينة "ابن معمر" يأمره بكتم أنفاسها، وقتل المنادي بها، والعودة فوراً إلى حظيرة الخرافات والخزعبلات.
ولما كان "ابن معمر" قد ارتبط مع الشيخ في مصاهرة .. فقد زوجه ابنته.. فإنه تردد في قتله، ولكنه دعاه إلى اجتماع مغلق، وقرأ عليه رسالة حاكم "الإحساء"، ثم رسم اليأس كله على ملامحه، وقال له: إنه لا يستطيع أن يعصي أمراً لحاكم "الإحساء"، لأنه لا قبل له به.. ولعلها لحظة يأس كشفت للشيخ عن عدم إيمان "ابن معمر".. ولم تزد الشيخ إلا إصراراً على عقيدته، وقوة توحيده.. فالحكام الطغاة لا يحاربون دائماً إلا داعية الحق.. وقبل الشيخ في غير في غير عتاب أن يغادر "العُيينة" .. مهاجراً في سبيل الله بتوحيده .. باحثاً عن أرض جديدة يزرعه فيها ..!
في الصباح استيقظت على ضجة في البيت غير عادية .. واعتدلت في فراشي ووصلت إلى أذني أصوات ليست آدمية خالصة، ولا حيوانيه خالصة.. ثغاء، وصياح، وكلام.. غير مفهوم العبارات.. وقلت لابد أنني أعاني من بقية حلم ثقيل.. فتأكدت من يقظتي، ولكن "الثغاء" هذه المرة أخترق طبلة أذني.. ودخلت عليّ زوجتي تحمل إليَّ أنباء سارة جدا.. وهي تتلخص في أن ابنة خالتي التي تعيش في أقصى الصعيد.. ومعها زوجها وابنها البالغ من العمر ثلاث سنوات.. قد وصلوا في قطار الصعيد فجراً، ومعهم "الخر وف"...!
وظننت أن زوجتي تداعبني.. أو أن ابنة خالتي- وكنت أعرف أن أولادها يموتون في السنوات الأولى-، قد أطلقت على طفل لها اسم "خروف" لكي يعيش- مثلأ- وهي عادات معروفة في الصعيد.. وقبل أن أتبين المسألة.. أحسست بمظاهرة تقترب من باب حجرة نومي.. وفجأة وبدون استئذان اقتحم الباب "خروف" له فروة، وقرون ، وأربعة أقدام .. واندفع في جنون من مطاردة الأولاد له.. فحطم ما اعترض طريقه.. ثم اتجه إلى المرآة، وفي قفزة عنترية اعتدى على المرآة بنطحة قوية، تداعت بعدها، وأحدثت أصواتا عجيبة وهي تتحطم..!
تم كل ذلك في لحظة سريعة.. وقبل أن أسترد أنفاسي، وخيل إليّ أن بيتنا انفتح على حديقة الحيوانات .. رغم أنني أسكن في العباسية، والحديقة في الجيزة .. ولكن وجدت نفسي أقفز من على السرير، وخشيت زوجتي ثورة الخروف ، وتضاءلت فانزوت في ركن ..ترمقني بعينيها، وتشجعني لكي أتصدى لهذا الحيوان المجنون.. الذي اقتحم علينا خلوتنا.. ولكن الصوت والزجاج المتناثر.. زاد من هياج الحيوان .. ولمحت في عينيه، وفي قرنيه الموت الزؤام .. واستعدت في ذهني كل حركات مصارعي الثيران، وأمسكت بملاءة السرير .. وقبل أن أجرب رشاقتي في الصراع مع "الخروف" دخلت ابنة خالتي.. وهي في حالة انزعاج كامل.. فقد خيل لها أنني سوف أقتله.. وصاحت، وهي على يقين من أنني سأصرعه:
- حاسب هذا خروف "السيد البدوي".
ونادته فتقدم إليها في دلال ، وكأنه الطفل المدلل فأمسكت به تربت على رأسه، وروت لي أنها قدمت من الصعيد، ومعها هذا الخروف البكر الرشيق الذي أنفقت في تربيته ثلاثة أعوام.. هي عمر ابنها .. لأنها نذرت للسيد، البدوي إذا عاش ابنها.. أن تذبح على أعتابه خروفا، و بعد غد يبدأ العام الثالث موعد النذر..!
كانت تقول كل هذه العبارات، وهي سعيدة.. وخرجت إلى الصالة لأجد زوجها، وهي في ابتهاج عظيم.. يطلب مني أن أرأفقهم إلى طنطا لكي أرى هذا المهرجان العظيم.. لأنهم نظراً لبعد المسافة أكتفوا بالخروف .. فأما الذين على مقربة من "السيد البدوي " فإنهم يبعثون بجمال.. وأصبح عليّ أن أجامل ابنة خالتي لكي يعيش ابنها، وإلا اعتبرت قاطعاً للرحم.. لا يهمني أن يعيش ابن خالتي أو يموت.. ولابد أن أذهب معهم إلى مهرجان الشرك وفي نفس الوقت كنت أسأل نفسي ..كيف أقنعها بأنها في طريقها إلى الكفر .. ؟ وماذا سيحدث حينما أحطم لها الحلم الجميل الذي تعيش فيه منذ ثلاث سنوات ..؟
وقلت أبدأ بزوجها أولاً لأن الرجال قوامون على النساء . وأخذت الزوج إلى زاوية في البيت، وتعمدت أن يرى في يدي كتاب: "الإمام محمد بن عبدالوهاب" ومد يده فجعل الغلاف ناحيته، وماكاد يقرأ العنوان حتى قفزكأنه أمسك بجمر ة نار ..!
.. يتبع ..