وفي الصباح استيقظت على جرس التلفون .. يصيح صيحات طويلة ومعناها أن مكالمة قادمة من خارج القاهرة .. ورفعت السماعة .. لأجد أن المكالمة من الصعيد ، والمتكلم هو زوج خالتي .. ووالد زوجة إبراهيم الحران .. يعلنني أنهم سوف يصلون غداً .. وقد اتصل ليتأكد أنني في القاهرة .. خوفاً من أكون على سفر .. فهو يريدني لأمر هام .. ورحبت به ، وقلت : إنني في انتظارهم .. ولم يكن أمامي سوى أن أفعل هذا .. لألف سبب وسبب !
أولها أن الرجل الذي اتصل بي أكن له كل الاحترام والحب ، وأنني لمست في صوته رقة الرجاء ، وأنا ضعيف أمام اليائس الذي يلجأ إليّ في حاجة وفي وسعي أن أقضيها له .. أخشى أن أرده - ولو بالحسنى - وأحاول جاهداً أن أكون من الذين يجري الله الخير على أيديهم للناس .. رغم هذا يسبب لي الكثير من المتاعب، وضياع الوقت إلا أنني أحتسب كل ذلك عند الله .!
وفي الغد ومع الركب الحزين ، وكان مؤلفاً من زوج خالتي أم زوجة إبراهيم الحران وابنتها التي أصابتها اللوثة بعد وفاة طفلها .. وكانت في حالة يرثى لها .. تفاقمت الحالة العقلية عندها - دخلت في مرحلة الكآبة العميقة .. رفضت معها الكلام، وفقدت فيها الشعور بما يدور حولها .. لاتستطيع أن تفرق بين النوم واليقظة ، ولا تجيب عمّن يحدثها .. انتقلت من دنيا الناس إلى دنيا من الوهم والكآبة .. حتى ذوت وصارت هيكلاً عظمياً .. ليس فيها من علامات الحياة .. سوى عينين كآلة زجاج .. يرسلان نظرات بلا معنى .. وقال لي الأب وهو حزين .. إنه يريد مني أن أتصل بابني وهوطبيب أمراض عصبية ونفسية ، ويعمل في دار الاستشفاء للأمراض النفسية والعصبية بالعباسية لكي يجد لها مكاناً في الدرجة الأولى ! .
كانت الأم تبكي وهي نادمة تعترف بآثامها .. وكيف أنها بإصرارها على علاج ابنتها عند المشايخ، وبالجري والطواف حول الأضرحة ، وضياع الوقت جعلت المرض يستفحل، ويهدم كل قدرة لابنتها على مقاومته .. واعترفت بأنها أخطأت في حق زوج ابنتها إبراهيم الحران واستفزته بإصرارها، على الخطأ، ولكن عذرها أنها كانت ضحية لجهلها، ولعشرات السيدات اللاتي كن يؤكدن لها .. أن تجاربهن مع المشايخ ، والأضرحة والدجالين .. تجارب ناجحة ، والمثل يقول : "اسأل مجرباً ولا تسأل طبيباً " !
واستطعنا بفضل الله أن نجد لها مكاناً ، وأن نلحقها في نفس اليوم بالدرجة الأولى، وقال لي ابني : إنها حالة مطمئنة ، ولا تدعو إلى اليأس .. كل ما في الأمر.. أن الإهمال جعلها تتفاقم .. وبعد مضي أسبوع واحد من العلاج .. تحسنت السيدة ، وقد عولجت بالصدمات الكهربائية.. إلى جانب وسائل علاجية أخرى يعرفها المتخصصون، وخلال ذلك اتصل بي إبراهيم الحران فقلت له : إنني أريده في أمر هام، ولا بد أنه يزورني في البيت .. وحينما جاء شرحت له الأمر وقلت له : إن الأطباء يرون في استرداده لزوجته جزءاً من العلاج - أيضاً - ولكن لفت نظري فيه .. أنه بعد قراءته للكتب التي حصلت له عليها من "الدكتور جميل غازي" في التوحيد أن أصبح إنساناً جديداً .. فالعبارات التي كانت تجري على لسانه .. من الإقسام تارة بالمصحف، وتارة بالأنبياء ، وتارة ببعض المشاريخ قد اختفت نهائياً .. وعاد يمارس حياته بأسلوب الرجل الذي لايعبد غير الله ، ولا يخشى إلا الله ، ولا يرجو سوى الله .. وحتى بعد أن حدثته في أن يعيد زوجته .. أصر على أن يجعل هذه العودة مشروطة .. بأن تقلع أم زوجته عن معتقداتها القديمة ، وكذلك والد زوجته.. أما زوجته .. فقال : إنه كفيل بها .. وعقدت بينهما جميعاً مجلساً لم ينقصه إلا الزوجة لأنها كانت بالمستشفى .. وقبلوا شروطه بعد هذا الدرس القاسي .!!
كان لزيارته في المستشفى .. أكبر الأثر في شفائها ، وزادت بهجتها حينما عرفت أنه أعادها إلى عصمته .. قال لي الذي كان يشرف على علاجها .. إن عودتها إلى زوجها وزيارته لها كانت العلاج الحقيقي الذي عجل بشفائها .. لأنها هي وحيدة أبويها .. حطمتها صدمة طلاقها .
بعد شهر وعشرة أيام تقريباً تقرر خروجها ، وكان ينتظرها زوجها ووالدها ووالدتها في سيارة على الباب رحلت بهم إلى الصعيد فوراً !.
لم أستطيع أن أنزع من نفسي بقايا هذه المأساة ، ولم يكن من السهل أن أتغافل عن الخرافة التي تخرب أو تهدم كل يوم بل وكل لحظة عشرات النفوس والبيوت في عشيرتي ، وأبناء ديني .. وعلى امتداد الوطن الإسلامي كله ..
ووجدتني أسأل نفسي لماذا نحن الذين نعيش في الشرق الأوسط .. تمزقنا الخرافة ، وتجثم على صدور مجتمعنا الخزعبلات . فتمسك بنا وتعوقنا عن ممارسة الحضارة.. ؟
مع أن الغرب والمجتمع الأوربي ليس خالياً من الخرافات ، وليس خالياً من الخزعبلات ، ومع ذلك فهم يعيشون في حضارة ، ويمارسونها .. تدفع بهم ويدفون بها دائماً إلى الأمام ؟!
.. يتبع ..