عرض مشاركة مفردة
  #1  
قديم 25-08-2003, 10:13 PM
المناصر المناصر غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2003
المشاركات: 396
إفتراضي الجزء الثاني

وقد كان بعض الصحابة يتحرقون شوقا إلى مجاهدة المشركين الذين اشتد أذاهم عليهم، فلم يأذن الله تعالى لهم بالقتال، وهو العليم الحكيم.

قال تعالى: (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً )) [النساء: 77].

قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية:
"كان المؤمنون في ابتداء الإسلام وهم بمكة مأمورين بالصلاة والزكاة.....
وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين والصبر إلى حين..
وكانوا يتحرقون ويودون لو أمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم..

ولم يكن الحال إذ ذاك مناسبا لأسباب كثيرة، منها قلة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم ومنها كونهم كانوا في بلدهم وهو بلد حرام وأشرف بقاع الأرض..

فلم يكن الأمر بالقتال فيه ابتداء كما يقال، فلهذا لم يؤمر بالجهاد إلا بالمدينة لما صارت لهم دار ومنعة وأنصار..

عن ابن عباس:
أن عبد الرحمن بن عوف وأصحاباً له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة..
فقالوا: يا نبي الله كنا في عزة ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة..
قال: ( إني أمرت بالعفو، فلا تقاتلوا القوم).
فلما حوله الله إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا، فأنزل الله.. (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ )) الآية. ورواه النسائي كبرى 11112 والحاكم 2307 وابن مردويه من حديث علي بن الحسن بن شقيق به".. [تفسير القرآن العظيم (2/349) تحقيق سامي بن محمد السلامة، دار طيبة]..

فكانت مصلحة الإسلام والمسلمين العليا آنذاك، في الكف عن القتال، وكانت مصلحة قتالهم للمشركين دفاعا عن أنفسهم، مغمورة مهدرة شرعاً..

وكانت المفسدة المترتبة على القتال، أعظم من مفسدة الأذى الذي أمرهم الله تعالى بالصبر عليه..

وفي هذا دلالة واضحة على عدم اعتبار مجرد القدرة على الفعل، إذا غلب على الظن فوات أعظم المصلحتين، أو جلب أكبر المفسدتين..

( 3 ) وكان سيترتب على القتال بين المؤمنين والمشركين في مكة، عدم تعاطف الآخرين مع المسلمين، مثل نجاشي الحبشة، وقبائل الأوس والخزرج في المدينة..

لأنهم سينظرون إلى المسلمين وهم قلة مستضعفة غير معترف بها، أنهم مغامرون يستخدمون العنف مع السلطة الشرعية، لإكراه الناس على الدخول في دينهم الذي لم يتبين لهم بعدُ أنه حق..

وأنهم لو أذن لهم بالهجرة إلى تلك البلدان، لفعلوا فيها ما فعلوا في مكة، ومعلوم هو الأثر العظيم الذي ترتب على الهجرتين..

وقد يقول قائل:
إن تلك الفترة كانت فترة مكية، ولسنا الآن في مثل تلك الفترة، لأن لنا بلداننا الخاصة ودولنا وأموالنا وجيوشنا...

والجواب:
أن المرحلة المكية هي إحدى مراحل الدعوة التي قد تكرر في بعض البلدان، حيث يكون المسلمون فيها أقلية ضعفاء تحت دولة كافرة قوية، لا يستطيعون أن يظهروا دينهم ولو في حده الأدنى، ولا يستطيعون الدعوة إليه..

كما كان الحال في الاتحاد السوفييتي قبل سقوطه، وفي الدول التي سارت في فلكه، كالصين وألبانيا ونحوها..

ولا زالت بعض المناطق في الصين ينال فيها المسلمون "في بلدهم المحتل" أشد أنواع القهر والإذلال، كما هو الحال في "التركستان الشرقية" وكذلك في "بورما"..

وغالب بلدان المسلمين التي ظاهرها الاستقلال بحكوماتها وحدودها، أصبحت في هذا الزمن شبيهة بالأسرى لدى الدول القوية التي تملك ما ترهب به غيرها، وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية..

والسبب في ذلك ضعف تلك الدول لأنها لا تملك استقلالها في الاقتصاد والزراعة والمواد الخام، والمواصلات البرية والجوية والبحرية، والعسكرية.. لأن الحصول على جميع تلك المرافق مرهون بموافقة تلك الدول..

فهي التي تعين ما يجوز تصديره للدول المستضعفة وما لا يجوز..
وهي التي تتحكم في قطع الغيار..
وهي التي تستطيع حصار أي دولة اقتصاديا وتجاريا ودبلوماسيا وعسكريا، ومواصلات واتصالات، تمنع عنها ضرورات حياتها من الغذاء والدواء وغيرهما، ولا يغيب عنا ما فعلوه مع العراق وليبيا والسودان...

ثم إن عند الدول القوية المهيمنة القدرة على أن يحتلوا الدول التي لا تستجيب لمطالبهم، ولا تجد تلك الدول ناصراً من دول أخرى، وما حصل في أفغانستان والعراق شاهد..

فإذا كانت قريش تملك لإيذاء أفراد المسلمين، السيف والحربة والعصا، والحبس والتقليب على الصخور الشديدة الحرارة..

فإن الدول القوية اليوم تملك الصواريخ عابرة القارات، وحاملة الطائرات والغواصات النووية، والمقاتلات الجوية التي لا تنالها الصواريخ العادية إن وجدت، والقنابل المدمرة وأسلحة الدمار الشامل، وهي لا تكتفي بالعدوان على الأفراد، وإنما تدمر بتلك الأسلحة الفتاكة الشعوب ومرافقها...

هذه الدول الضعيفة أمام تلك الدول القوية، لا قدرة لها على إقامة الجهاد العسكري، لتحقيق الهدف الأول، وهو ما يسمى بجهاد الطلب، لأنها مهددة بسبب ضعفها باحتلال بلدانها...

وإنما ذكرت هذا الأمر، لأنبه كثيرا من الشباب الذين يظنون أن حكومات الشعوب الإسلامية، بوضعها الحالي الذي لا يخفى على أحد، قادرة على القيام بهذا النوع من الجهاد..

بل اعتقد كثير من الشباب أنهم يملكون القدرة على جهاد الطلب، لأنهم لم يفهموا حقيقة القدرة الشرعية، بل جعلوا مجرد قدرتهم على الفعل مسوغا لقيامهم بالجهاد، وإن ترتب على ذلك ما يعود على هدف الجهاد بالنقض، كما هو الواقع اليوم..

المسألة الثانية:
فهم كثير من الناس أن الفرد أو المجموعة من المسلمين، لهم الحق - أو يجب عليهم – أن يقوموا بجهاد الطلب، ولو لم يكن ذلك بإذن من ولاة الأمر، وبدون تفكير فيما يترتب على فعلهم من الأضرار التي تعود على عامة المسلمين...

وسبق أن جهاد الطلب، يجب أن تكون له "قيادة شرعية منبثقة من أهل الحل والعقد، جامعة للفقه في الدين ومعرفة الواقع الذي يتيح لها قرار الإقدام أو الإحجام، مراعاة لجلب المصالح للأمة ودفع المفاسد عنها"..

وسبق ذكر بعض المفاسد التي ترتبت على بعض التصرفات التي ظن القائمون بها أن فيها مصالح للمسلمين، ولم يفطنوا لتفويت مصالح أعظم منها، وظنهم أن فيها دفع مفاسد عن المسلمين، ولم يفطنوا لحصول مفاسد أعظم منها...

المسألة الثالثة:
التنبيه على أن الذي يحق له القيام بجهاد الطلب، هو الذي عنده – في الغالب - قدرة أن يتحمل مسؤولية دفع الأخطار المترتبة على ذلك عن الأمة..

وهذا لا يتاح إلا لولي الأمر الذي له سلطة على الأمة تجعله قويا على دفع تلك الأخطار بأهل الحل والعقد فيها...

والأفراد أو المجموعات الذين يقومون بما يعتقدون أن لهم الحق فيما يقومون به من جهاد الطلب، لم تعد الأضرار المترتبة على تصرفاتهم عليهم وحدهم [مع أن تلك الأضرار العائدة عليهم وحدهم، مفاسدها أعظم من مصالحها] بل عادت الأضرار على الأمة الإسلامية في كل أنحاء الأرض.

ومعلوم أن إلحاق الإنسان الضرر بأخيه الإنسان، محرم في الإسلام، وهو أمر متفق عليه، فكيف إذا لحق الضرر الأمة الإسلامية كلها..؟

وقد روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما:
أن الرسول صلى الله عليه وسلم: قال: ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ). [البخاري، برقم (10) ومسلم، برقم (40) بلفظ "أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المسلمين خير؟ قال: (من سلم المسلمون من لسانه ويده)].

وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه:
أن رسول الله قال: (لا ضرر ولا ضرار، من ضار ضاره الله، ومن شاقَّ شاق الله عليه).. [الحاكم في المستدرك، برقم (2345) وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه" ورواه الدارقطني، برقم (288) و ابن ماجه من حديث عبادة بن الصامت، برقم (2340)].

وقد يقال:
إن جهاد الطلب الذي يقوم به بعض الشباب، ليس موجها ضد المسلمين، وإنما هو موجه ضد أعداء المسلمين الظالمين.

والجواب:
أن التسبب في إلحاق الضرر كالمباشرة، يلام صاحبه..

كما في حديث عبد الله بن عمر بن العاص، رضي الله عنهما:
أن رسول الله قال: ( من الكبائر شتم الرجل والديه )..
قالوا: يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟
قال: (نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه).. [مسلم، برقم (90)]..

ولهذا يجب على من بقي من هؤلاء الشباب عاقدا النية على السير في هذا الطريق، أن يتقي الله ويفكر ملياً في هذه الأمة التي أصابها ما أصابها من الكوارث، وأن يثوبوا إلى رشدهم، ويقلعوا عن هذه التصرفات التي هذا شأنها... فهم مع إخوانهم المسلمين في سفينة واحدة، إذا غرقت غرقوا جميعا، وإذا نجت نجوا جميعا...

كما يجب على حكومات الشعوب الإسلامية، أن تعامل هؤلاء الشباب، عندما يرجعون عن هذه التصرفات، أن يقبلوا عودتهم، وأن يعاملوهم المعاملة اللائقة بهم، لتحصل بذلك الوقاية من الأضرار المترتبة على الاستمرار في هذا السبيل ، وهو العنف وعنف العنف، الذي قد لا تكون له نهاية...

وسيأتي أن لهذا الشباب مندوحة أخرى في جهاد الدفع في بعض البلدان الإسلامية....
__________________
إرسال هذه الحلقات تم بتفويض من الدكتور عبد الله قادري الأهدل..
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك..