* وقد كانوا ـ رحمهم الله ـ يكرهون المراء مطلقاً، حتى لو لم يكن معه شيء من فساد المعتقد.
1 - فعن وهب بن منبّه قال: «كنت أنا وعكرمة نقودُ ابنَ عباس بعد ما ذهب بصره حتى دخلنا المسجد الحرام؛ فإذا قومٌ يَمترون في حلقةٍ لهم مما يلي باب بني شيبة، فقال لنا: أُمَّا بي حلقة المِراء. فانطلقنا به إليهم فوقف عليهم، فقال: انتسبوا لي أعرفْكم. فانتسبوا له ـ أو من انتسب منهم ـ، قال: فقال: ما علمتم أن لله عباداً أَصَمَّتهم خشيته من غير عِيٍّ ولا بَكَم!! وإنهم لهم العلماءُ الفصحاءُ النبلاءُ الطلقاء، غير أنهم إذا تذاكروا عظمة الله ـ عز وجل ـ طاشت لذلك عقولهم، وانكسرت قلوبهم، وانقطعت ألسنتهم، حتى إذا استفاقوا من ذلك تسارعوا إلى الله بالأعمال الزاكية. فأين أنتم منهم؟! قال: ثم تولَّى عنهم، فلم ير بعد ذلك رجلاً»(17).
2 - وحدث حماد بن زيد عن محمد بن واسع عن مسلم بن يسار أنه كان يقول: «إياكم والِمراء؛ فإنها ساعة جهل العالم، وبها يبتغي الشيطان زلّته»(18).
* أما إذا خالط المراءَ والجدالَ بدعةٌ؛ فكان فرارهم من ذلك أشد الفرار ومواقفهم المروية لنا في ذلك كثيرة جداً جداً. فمن ذلك:
3 - أن الحسن ومحمد كانا يقولان: لا تجالسوا أصحاب الأهواء، ولا تسمعوا منهم، ولا تجادلوهم(19).
4 - وقال عبد الرزاق: «قال لي إبراهيم بن أبي يحيى: إني أرى المعتزلة عندكم كثيراً. قال: قلت: نعم، ويزعمون أنك منهم! قال: أفلا تدخل معي هذا الحانوت حتى أكلمك! قلت: لا. قال: لِمَ؟ قلت: لأن القلبَ ضعيف، وإن الدين ليس لمن غلب»(20).
5 - وذكر أبو الجوزاء أهل الأهواء، فقال: «لأن تمتلئ داري قردةً وخنازيرَ أحب إليّ من أن يجاورني رجل من أهل الأهواء»(21).
6 - وقال محمد بن علي: «لا تجالسوا أصحاب الخصومات؛ فإنهم يخوضون في آيات الله»(22).
7 - وقال مصعب بن سعد: «لا تجالس مفتوناً؛ فإنه لن يخطئك منه إحدى خصلتين: إما يُمرض قلبك لتتابعه، وإما أن يؤذيك قبل أن يفارقك(23).
8 - وقال أيوب: قال أبو قِلابة: «لا تجالس أصحاب الأهواء؛ فإني لا آمن عليك أن يغمسوك في ضلالتهم، ويلبسوا عليك ما كنت تعرف»، وكان والله! من القراء ذوي الألباب(24).
فإذا كان أبو قلابة يقول هذا الكلام لأيوب السختياني وهو من هو؟!! فكيف بك أخي الكريم وأنت لم تبلغ رتبة أيوب في العلم والدين ولعلك لم تقاربها؟!! فهذا دالٌ على أن الأمر جلل.
9 - وحدث عبد الرزاق أخبرنا معمر قال: «كان ابن طاوس جالساً، فجاء رجل من المعتزلة فجعل يتكلم. قال: فأدخل ابن طاوس إصبعيه في أذنيه، وقال لابنه: أي بُني أدخل إصبعيك في أذنيك واسدد؛ لا تسمع من كلامه شيئاً. قال معمر: يعني أن القلب ضعيف»(25).
10 - وكان الإمام مالك بن أنس ـ رحمه الله ـ يعيب الجدال، ويقول: كلما جاءنا رجل أجدل من رجل أردنا أن نرُدَّ ما جاء به جبريلُ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- !!(26).
11 - وجاء رجل إلى الحسن فقال: يا أبا سعيد! تعال حتى أخاصمك في الدين. فقال الحسن: أما أنا فقد أبصرتُ ديني، فإن كنتَ أضللتَ دينَك فالتمِسه(27).
12 - وقال سلام: وقال رجل من أصحاب الأهواء لأيوب: يا أبا بكر! أسألك عن كلمة! قال: فولَّى أيوب، وهو يقول: ولا نصف كلمة!! مرتين وهو يشير بإصبعه(28).
13 - وقال يحيى بن يسار: «سمعتُ شَريكاً يقول: لأن يكون في كل قبيلة حمار أحب إليَّ من أن يكون فيها رجلٌ من أصحاب أبي فلان (رجلٌ كان مبتدعاً)»(29).
14 - وقال أبو حاتم: «سمعت أحمد بن سنان يقول: لأن يجاورني صاحب طنبور أحب إليَّ من أن يجاورني صاحب بدعة؛ لأن صاحب الطنبور أنهاه وأكسر الطنبور، والمبتدع يُفسد الناس والجيران والأحداث»(30).
|