* وكان في كلامهم ـ رحمهم الله ـ ما يدل على أن الخصومات والمناظرات في الدين سبب لإيغال المبتدع في الضلالة:
15 - فقد سأل عمرو بن قيس الحَكَم بن عُتَيبة فقال له: ما اضطر المرجئةَ إلى رأيهم؟ قال: الخصومات(31).
16 - وقال الأوزاعي: «إذا أراد الله بقوم شرّاً فتح عليهم الجدل، ومنعهم العمل»(32).
وقد بوّب الآجُرِّيُّ في الشريعة عدة أبواب تدل على هذا الأصل من مجانبة المبتدعة والحذر من الاختلاط بهم والجلوس معهم، فمن ذلك: (باب الحث على التمسك بكتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسنة أصحابه رضي الله عنهم، وترك البدع، وترك النظر والجدال فيما يخالف الكتاب والسنة وقول الصحابة رضي الله عنهم)(33)، وكذلك: (باب ذم الجدال والخصومات في الدين)(34). وكذلك: (باب فضل القعود في الفتنة عن الخوض فيها، وتخوف العقلاء على قلوبهم أن تهوى حالاً يكرهه الله ـ تعالى ـ بلزوم البيوت والعبادة لله تعالى)(35).
وبوّب اللالكائي: (سياق ما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في النهي عن مناظرة أهل البدع، وجدالهم، والمكالمة معهم، والاستماع إلى أقوالهم المحدثة وآرائهم الخبيثة)(36).
وفي ذم الكلام وأهله لشيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي(37): (باب ذم الجدال والتغليظ فيه، وذكر شؤمه).
هذا؛ وقد استطردتُ قليلاً في ذكر مواقفهم ـ رحمهم الله ـ من الحوار والجدال والمجالسة والسماع لأهل البدع، ومن ذلك مناظرتهم؛ تأصيلاً للمسألة وبياناً للأصل الذي يجب حفظه ومراعاته في مثل هذه المسائل. وحملني على ذلك أيضاً توسع الناس في ذلك في هذه الأزمنة، فلا تكاد تجد منهم متحفِّظاً يكون سلفياً في موقفه من مجالسة أهل البدع وإلقاء السمع لهم، وقد تركت من ذلك أضعاف أضعاف ما نقلتُ، فالآثار في ذلك بالمئات، فليتأمل العاقل في نفسه، ولينظر في البواعث التي سيأتي في تقريرها، ثم ليشح بدينه من أن يناله نائل، فإنما هي الجنة والنار، فالأمر جد وليس بالهزل.
على أن ذلك منهم ـ رحمهم الله ـ ليس بالقاعدة المطَّرِدة التي لا يصح أن تُخالف. وبيان ذلك يتضح بتلمُّس بواعثهم على مثل هذا الموقف، ومن ثم قياسها ومعرفة وزنها من واقعٍ لآخر، مع النظر في مواقفهم الأخرى التي ثبتت عنهم في مناظرتهم وكلامهم مع أهل البدع.
أما بواعثهم على اتخاذ هذا الموقف؛ فأهمها ما يلي:
1 - حرص الإنسان على سلامته في دينه، وخوفه على نفسه من الشبهات والوقوع في البدع أو القرب من أهلها: وذلك أنهم عرفوا مقدار نعمة الله عليهم بما تفضل عليهم من توفيقهم للإسلام والسنة، فشحوا بدينهم من أن يناله أي نائل، ولم يأمنوا مكر الله، ورجوا السلامة، والسلامة لا يعدلها شيء. قال الإمام مالك بن أنس: «الداء العضال التنقُّل في الدين»، وقال: «قال رجلٌ: ما كنتَ لاعباً به فلا تلعبَنَّ بدينك»(38).
فينبغي على من أراد المناظرة أن يرجع إلى نفسه ويقول لها: «إني لو نجوتُ وعطب أهلُ الأرض من أهل الأهواء ما ضرني ذلك، ولو عطبتُ ونجَوا ما نفعني، فإقامتي الحجة عليهم وتركي أن أقيم الحجة على نفسي ـ في تضييعي أمره حتى أؤدي ما أمرني به ربي، وأنتهي عمَّا نهاني عنه، وأربح أيام عمري ليوم فقري وفاقتي ـ أولى بي، فقد شغلوني عن نفسي وعن العمل لنجاتي...»(39).
ويمكن ملاحظة ذلك في الآثار: 4، 7، 8، 9، 12.
ومن أضرار هذه المناظرات على المشتغل بها في دينه: كونها شاغلة له عما هو أولى به منها ـ كما مرّ قريباً الإشارة إليه ـ من خلوّ القلب لذكر الله، وتذوق حلاوة مناجاته، والاشتغال بقراءة القرآن، وتعلّم وتعليم العلم النافع؛ فإن أهل الاشتغال بهذه الأعمال الجليلة في شغل عن هذه المماحكات، ولم يولّد المماراةَ والجدلَ في الدين إلا قومٌ فرغوا عن العمل النافع، فانشغلوا بما هو دونه بمراتب، بل بما يكون ضرره على الواحد منهم ـ وعلى سائر المسلمين ـ أكثر من نفعه.
ولذلك؛ فإنه كانت في «القرون الفاضلة الكلمة في الصفات [وغيرها من المسائل الكبار] متحدة، والطريقة لهم جميعاً متفقة. وكان اشتغالهم بما أمرهم الله بالاشتغال به، وكلّفهم القيام بفرائضه من: الإيمان بالله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصيام، والحج والجهاد، وإنفاق الأموال في أنواع البر، وطلب العلم النافع، وإرشاد الناس للخير على اختلاف أنواعه، والمحافظة على موجبات الفوز بالجنة، والنجاة من النار، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخذ على يد الظالم بحسب الاستطاعة، وبما تبلغ إليه القدرة، ولم يشتغلوا بغير ذلك؛ مما لم يكلفهم الله بعلمه، ولا تعبّدهم بالوقوف على حقيقته. فكان الدين إذ ذاك صافياً عن كَدَر البدع... فعلى هذا النمط كان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ والتابعون وتابعوهم، وبهدي رسوله اهتدوا، وبأفعاله وأقواله اقتدوا»(40).
وقال جعفر بن محمد: «إياكم والخصومة في الدين؛ فإنها تُشغل القلب، وتورث النفاق»(41).
|