عرض مشاركة مفردة
  #5  
قديم 18-11-2003, 01:25 PM
حسام الدين حسام الدين غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Nov 2003
المشاركات: 89
إفتراضي

أولُ مَا يلفت انتباهنا في هذا الحفل هو علاقته بفصل الربيع، بفصل الخصوبة؛ ثم التعابير التي يستعملها المؤلف لنعت السلوك السائد في الحفل: «الفجور»، «الشعوذة»، و«البطالة». وهذا يشكل في ذاته مؤشرا يكشف عن وسط يذكرنا بعالم البغاء. ونمط تسمية الأمكنة هو الآخر له دلالته: ساحة الوردة على مقربة من «الباب الخضراء»؛ الوردة رمزُُ لجمال الطبيعة، لكنها أيضا رمز لجمال المرأة؛ الخضرة رمز لخصوبة الطبيعة، لكنها كذلك رمز للمرأة المومس التي لازالت تنعت في التقليد الشفوي بلقب «امرأة خضراء». أما موقف السلطة الذي تأرجح في هذا الصَّدد من التسامح إلى المنع، فيذكرنا بسياستها المتناقضة تجاه البغاء.

تتيح هذه المؤشرات مجتمعة تقديم فرضية تأويلية، وهي أننا فعلا إزاء مهرجان يتردد عليه أهل البغاء والفجور، حيث يعرون في احتفال راقص «بنات المتعة» في ساحات عمومية. تثير هذه الساحات بأسمائها الجمالَ والأنوثة والخصوبة، ومن ثمة لا يستبعد أن يكون مزوار يتمتع برخصة «تنمية» تجارته في هذا النوع من الاحتفالات.

هناك ملاحظة أخيرة تفرض نفسها بخصوص أصل هذا الحفل، وهو مصدر يجهله المؤلف. يؤكد كل من إلحاحه على قِدَمِه والمعلومات النادرة التي يذكرها، كارتباطه في متخيل ذلك العصر بفراعنة مصر القديمة، يؤكد فكرة أننا إزاء رواسب ثقافية لحضارات متوسطية تهيمن عليها سمة إغريقية أو مصرية[11].

رجُوعا إلى الأشكال الخاصة للتنظيم، تفيدنا بعض الإشارات المستمدة من مصادر أخرى، في آن واحد، حول أنمَاط التنظيم والطرق البوليسية المستعملة كما تطرح في الآن نفسه قضية تجاوزات الموظفين. أولا، كان المزوار مُلزما يشتري امتيازاته بتقديم ضريبة سنوية للدولة التي كان يضع في صناديقها مبلغا تعرض قدره للاختلاف نظرا لتبعيته لعدد البنات الخاضعات لهذه الضريبة. نحن هنا إزاء إواليات الاشتغال نفسها السائدة في مختلف الجبايات الضريبية أو اللزمة، وهي مميزات للنظام الجبائي الذي اقامه العثمانيون في الوصاية إبان العصر الحديث. ثم يُسجل أن لِزمات شبيهة كانت مفروضة على أنشطة أخرى ممنوعة نظريا في مجتمع إسلامي؛ مثل صناعة الخمر والكحول وتوزيعهما[12].

لقد فضلت الدولة مراقبة هذه القطاعات وتنظيمها للاستفادة منها ماديا وسياسيا بدل قمعها طبقا لرغبات وأماني رجال الدين.

وعلى هذا النحو دفعت الدولة الضريبية منطقها هذا، وهو منطق الابتزاز الضريبي، إلى حدّ انتهى بإقامة نوع من «قِـوَادَة» الدولة.

لكن المشكل الذي نود الإلحاح عليه، في علاقته بالتنظيم المفروض على وسط البغاء، هو مسألة تجاوز الموظفين المكلفين بمراقبة هذه المهنة. فهذه التجاوزات لم تكن شائعة فحسب، بل وكانت تشكل مكونا أساسيا لصلاحيات المراقبة نفسها واختصاصاتها على نحو ما كانت تمارَس.

كانت الجباية الضريبية، بحكم التصور المقام عنها، تتحول في اشتغالها - وفي استقلال عن شخصبة جامع هذه الضريبة أو الملزم - إلى عامل لتوسيع عالم البغاء. ففي المصادر التي سبق أن أحلنا إليها، نقرأ التأكيدات التالية بالخصوص: «بما أن ثمن الجباية الضريبية يظل ثابتا وضريبة الدولة المستحقَّة تتزايد بتزايد عدد الملزَمات، فإنه كان في مصلحة مزوارا أن تتزايد أعدادهن، ونتيجة لذلك فإنه كان يبحث ويدفع عناصره للبحث في أوساط النساء عن المشتبه في سلوكهن مع كونهن معروفات بالاستقامة، ليقدم الحجة أمام ''القاضي'' على أنهن - أرامل كن أو مطلقات أو متزوجات - قد اقترفن أخطاء، أنهن بمثابة عاهرات، ومن ثمة يسجلهن ويلزمهن بأداء الضريبة»[13].

أكثر من كونها تجاوزات، تكشف أشكال الشطط المذكورة أعلاه عما هو أساسي في النظام الضريبي الذي لا يمكن أن يتحدَّد في سياق ذلك العصر إلا بـأشكال شطط تدعو إلى تعسفات أخرى.

كان تثقيل الضرائب أحد ثوابت السياسية الضريبية لكل دولة جبائـية. لذلك، عندما كان مزوار يوسع دائرة المومسات بطريقة قانونية أو غير مشروعة، فإنه لم يكن يفعل سوى التطابق مع منطق متماسك في إطار ذلك النظام.

في عمل توسيع عالم البغاء لغايات ضريبية، كانت السلطة السياسية ممثلة هنا في المزوار تضع في خدمة هذا الأخير جميع المؤسسات بما في ذلك الشرع. ذلك أن القاضي الشرعي لم يكن بإمكانه في هذه الأوضاع سوى الامتثال للإرادة السياسية.

هكذا، وبشكل مفارق، تحوَّلَ الشأن الديني إلى مجرد غطاء ليس لتبرير هذا الشطط أو التجاوز، ولكن بالتأكيد لتشجيع، بل وحتى لشرعنة البغاء ولو بشكل غير مباشر.

تقدم لنا تفاصيل حول الطرق البوليسية التي يستخدمها مزوار للوصول إلى أغراضه. فمؤلف «البغاء في مدينة الجزائر» يمدنا بشهادات إضافية: «كانت له القدرة على التسرب إلى داخل المنازل نفسها. وللوصول إلى ذلك، فإنه كان يملك عددا من العناصر المشغولة دائما باكتشاف كل المغامرات الغرامية... كان مزوار ينقض على المرأة كأنه يستحوذ على بضاعة تجارية محظورة. ولتجنب المرأة التسجيل، فإنها كانت تضطر لتقديم مبلغ مالي ضخم...»[14].

وإذن فإلى مزوار كان يتجه المرء عندما يريد مرافقة فتاة عمومية، وكان مزوار نفسه هو الذي يحدد الثمن الواجب أداؤه مقابل قضاء يوم واحد أو عدة أيام مع البغية، تبعا لجمالها. بحوزتنا كذلك تأكيد بليغ حول شيوع التجاوزات، يتمثل في حذف باي تونس هذه المهنة سنة 1836. فقد اشتهر مزوار كثيرا بالفساد والتغرير بالقاصرات[15].

وإذن لا شك في أن الدعارة لم تكن ظاهرة واقعية في كبريات مدن إفريقيا الشمالية ما قبل الاستعمارية فحسب، بل وكانت كذلك قطاعا منظما يخضع لتقنين اجتماعي وضريبي صارم يناظر مثيله في الحرف الأخرى.

وبذلك فلدراسة البغاء أبعادها ودلالاتها المتعددة. فالدعارة في ذاتها توضح تطورَ الآداب والممارسات الجنسية، من جهة، وتتيح متابعة وتوضيح ظواهر أخرى من الحياة الاجتماعية مثل ظواهر الهجرة وتأثيرها في الوسط الحضري للحقبة، من جهة ثانية.


&&&&&&&&&&&&&&&&&&&