عرض مشاركة مفردة
  #3  
قديم 26-11-2003, 08:21 PM
خبيب خبيب غير متصل
فلتسقط المؤامرة
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2003
المشاركات: 269
إفتراضي

جزء 2 قال

أما الشخصية الثانية فهي أقرب إلي زماننا، وتعود تحديداً إلي العشرين من نوفمبر (تشرين الثاني) 1979 حينما فاجأ جهيمان العتيبي ومجموعة من أنصاره الحكومة السعودية والعالم الإسلامي باقتحام الحرم المكي واحتجاز من كان فيه من المصلين والحجيج في موسم حج ذلك العام. كان جهيمان واعظاً نشطاً يركز جل اهتمامه علي قضايا ذات صلة بمواصفات الحاكم المسلم العادل، وبالعلاقات مع الكفار ، وبفساد وانحراف حكام آل سعود وانغماسهم في متع الحياة الدنيا. وكان يوجه نقده بشكل خاص إلي الحكومة السعودية التي كانت من وجهة نظره تتبني قضايا غير المسلمين بسبب تحالفها الوثيق مع القوي الأجنبية، وبالذات في ذلك الوقت مع الولايات المتحدة الأمريكية. أما أتباعه، الذين تراوح عددهم ما بين 200 و400 شاب، فكان معظمهم طلاباً في كليات الدراسات الشرعية بجامعات المملكة العربية السعودية، وكان بعضهم سعودي الجنسية وكان البعض الآخر من دول إسلامية أخري وخاصة من الكويت واليمن ومصر. يري معظم المراقبين للشأن السعودي بأن جهيمان وأتباعه كانوا يمثلون انتفاضة إسلامية هدفها الاحتجاج علي ما اعتبروه تفريطاً دينياً وتسيباً بل وانحلالاً أخلاقياً في مسالك الحكام السعوديين. وعلي منهج الدويش من قبله فقد هاجم جهيمان العائلة الملكية الحاكمة في السعودية مندداً بها بسبب المسالك غير اللائقة لأفرادها وبسبب فسادهم واعتمادهم علي الكفار لضمان أمنهم. إلا أن الفرق بين جهيمان وسلفه أنه انتفع من التعليم الديني الرسمي الذي كانت الدولة السعودية قد أنشاته وأخذت علي عاتقها تبنيه ودعمه، وذلك أنها كانت تحرص علي إبراز هويتها الإسلامية وطبيعتها الدينية لترسيخ شرعيتها ليس فقط داخل المملكة وإنما في الخارج أيضا.
لقد كان تمرد جهيمان تعبيراً عن التوترات التي كانت تعصف بالمجتمع السعودي، ومن هذه التورات ثلاث يجدر التنويه بها: أما الأول فيتعلق بكيفية التوفيق ما بين الثراء الهائل والمفاجئ والتحديث الاقتصادي السريع من جهة والتمسك الصارم بتعاليم الدين الإسلامي من جهة أخري. وأما الثاني فهو الناجم عن عدم التوافق ما بين العقيدة الإسلامية من جهة والنظام السياسي الملكي من جهة أخري. وأما الثالث فذو علاقة بقابلية العائلة الحاكمة للتعرض لهجوم من قبل الإخوان الجدد سليلي أولئك الذين قادوا التمرد ضد ابن سعود في الفترة من 1927 إلي 1930. ولعل من المفيد الإشارة هنا إلي أن جهيمان نفسه كان قد ولد في مستوطنة ساجير الإخوانية في القصيم.
تمثل رد النظام في المملكة العربية السعودية في حشد العلماء السعوديين، حتي أن المرجع الديني الأعلي في المملكة الشيخ عبد العزيز بن باز كان قد أصدر فتوي تؤيد الفئة الحاكمة وتجيز التدخل العسكري في الحرم المكي، ولعل هذا ما أضفي شرعية علي الاستعانة بالقوة العسكرية الفرنسية. وفي الثالث من كانون الأول (ديسمبر) 1979 تمكنت الحكومة السعودية من القضاء علي التمرد بفضل المساعدة العسكرية الأجنبية التي يسرت اقتحام الحرم في مكة المكرمة. وأسدل الستار علي العملية بخروج المتمردين من الحرم والقبض علي جهيمان الذي ما لبث أن أعدم قتلاً بالسيف بعد أن حصلت الحكومة علي فتوي بذلك من أبرز علمائها.
كان التمرد رد فعل علي تطور أفرز نتائج اجتماعية وتوترات لم تكن الحكومة التي تزعمت برنامج التحديث قد توقعتها رغم أن عملية التحديث التي مضت فيها كانت تستهدف بالدرجة الأولي إيجاد أرضية جديدة لشرعيتها. كان ذلك بمثابة صحوة سياسية استمدت زخمها من خطاب ديني عميق ومفصل يعود الفضل فيه إلي التبني الحكومي لمراكز التعليم والتوجيه والتثقيف الديني. ولا أدل علي ذلك من أن جهيمان تميز بتعليمه الديني وأبحاثه اللاهوتية التي نمت وتطورت عبر فترة زمنية طويلة من الدراسة في الجامعة الإسلامية التي أنشأتها الدولة السعودية.
إذا ما انتقلنا إلي التسعينيات من القرن العشرين فإننا نواجه هنا بأسامة بن لادن (من مواليد العام 1957). ونحن هنا بصدد ظاهرة تتجاوز الحدود القطرية والقومية لشخص ولد وترعرع في المملكة العربية السعودية. ليس لابن لادن أي جذور قبلية في هذا البلد، فوالده جاء إلي المملكة العربية السعودية من حضرموت في الثلاثينيات من القرن العشرين. ورغم أنه يستهدف الولايات المتحدة بالدرجة الأولي إلا أنه يزعم بأنه يمثل أكثر من ذلك. يستدل من ثراءه ومصالحه التجارية علي أنه كان شخصاً مندمجاً اجتماعياً، بل إن الحكومة السعودية كانت تعتبره حتي العام 1994 مواطناً صالحاً. ورغم أن المملكة العربية السعودية حاولت جاهدة منذ منتصف التسعينيات النأي بنفسها عن ابن لادن إلا أنه كان ذا شخصية راسخة الاندماج وعلي صلات وطيدة بأرفع مستويات السلطة في النظام، ولعل ثقة النظام فيه كانت تنبع من كونه بلا جذور قبلية داخل المملكة العربية السعودية، ولربما كان هذا العامل، بالإضافة إلي شبكة العلاقات الهامة التي ربطته بالأمراء المهمين، هو ما ساعده علي تكوين ثروة طائلة. وبالتنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية اعتمدت عليه الحكومة السعودية لوضع خطتهم لتحرير أفغانستان من الاحتلال السوفياتي عام 1979 موضع التنفيذ. إذا كان هو قد تبرع بتقديم الخدمات والقيام بعمليات نقل المجاهدين الذين هبوا لتلبية نداء الجهاد لتحرير أفغانستان وتزويدهم باحتياجاتهم من السكن والتدريب. استهل نشاطاته في البداية في بيشاور داخل باكستان وانتقل من بعد إلي أفغانستان، وأثبت جدارة فائقة وأصبح مصدر إلهام للجيل الناشئ من الشباب السعودي ولعامة شباب المسلمين محفزاً لهم علي القتال في سبيل القضية الأفغانية. وعلي شاكلة الدويش وجهيمان، ما أن أنهي بنجاح مهمته في أفغانستان حتي بدأ يعير اهتمامه لكفلائه في النظام السعودي. ولكن لم يلبث طويلاً حتي اصطدمت طموحاته في تكوين أمة إسلامية عالمية قوية ومستقلة بالاهتمامات السياسية للسعوديين. إلا أن القشة التي قصمت ظهر البعير تمثلت في استدعاء الحكومة السعودية عام 1990 الأمريكيين للدفاع عن أرض الإسلام ضد الغزو المحتم الذي كانت توشك أن تتعرض له من قبل قوات صدام حسين. كانت المملكة العربية السعودية قد سخرت كميات هائلة من ثروتها لبناء تجهيزات عسكرية زودت بالسلاح المقتني بالدرجة الأولي من الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي عزز من اعتراضات أسامة بن لادن، والذي ندد بدوره بالحكومة السعودية للجوءها إلي دعوة القوات الأمريكية للدفاع عن المملكة. كما اعترض أيضاً علي تحالف المملكة العربية السعودية مع الولايات المتحدة الأمريكية بسبب دعم هذه الأخيرة الدائم لإسرائيل. فأخذ ينادي بإسقاط الزعماء المسلمين، بما في ذلك الحكام السعوديين، بسبب علاقاتهم الحميمة بالغرب. وفي عام 1994 سحبت المملكة العربية السعودية جنسية أسامة بن لادن واعتبرت جماعته، التي كانت تعرف بلجنة النصيحة والإصلاح، جماعة غير مشروعة. وفي أفغانستان اكتسبت معسكرات التدريب التابعة لأسامة بن لادن صفة أسطورية بما كان يتردد عن شبكة القاعدة وإمكانياتها العسكرية والتقنية العالية سواء في مجال الاتصالات أو المختبرات العلمية، بل وما كان يدعي من إعداد للأسلحة البيولوجية والكيماوية في أجواء أقرب ما تكون إلي القرون الوسطي من بيوت طينية بدائية وكهوف جبلية عصية.


يقدر عدد السعوديين الذين استجابوا لندائه بالقتال في أفغانستان بأكثر من خمسة وعشرين ألف شخص. إلا أن هذا الرقم يظل محل نزاع في غياب دليل قطعي وطالما التزمت الحكومة السعودية الصمت إزاء عدد المواطنين السعوديين الذين توجهوا إلي أفغانستان في الثمانينيات للانضمام إلي صفوف المقاومة، وقد لا يتسني إطلاقاً معرفة الرقم الحقيقي.
جل المتعاطفين مع أسامة بن لادن لا يشكلون جزءاً من التنظيم السري للقاعدة وإنما هم مجرد متعاطفين يرون في شخص إسامة بن لادن الأب الروحي (أو العراب) الذي تجد رسائله صدي لديهم وتبدو منسجمة مع تطلعاتهم. إن من الصعوبة بمكان تقدير حجم منظمة كتلك التي يقودها أسامة بن لادن، ولكن ما من شك في أن قطاعات كبيرة من الشارع السعودي ترحب بنقده للحكومة السعودية وتحديه للولايات المتحدة الأمريكية. ولعل حقيقة أن خمسة عشر من التسعة عشر الذين خطفوا الطائرات الثلاث وفجروها في مركز التجارة العالمي بنيويورك ووزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) في واشنطن يوم الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 كانوا سعوديين تثبت بأن السعوديين تجاوبوا فعلاً مع نداءات ابن لادن لهم. ويؤكد ذلك استطلاع للرأي أجري مؤخراً بعد الهجوم، حيث تبينأن أكثر من 90 بالمائة من الشباب السعوديين يتعاطفون مع رسالة أسامة بن لادن. ومع ذلك لابد من التفريق بين هذا التعاطف من ناحية والموافقة علي أساليبه العسكرية وتلقي أوامر مباشرة من منظمته من الناحية الأخري، فهذا أمر مختلف تماماً.
ما من شك في أن أوجه التشابه ما بين الشخصيات التاريخية الثلاث المذكورة آنفاً تشابه مذهل، فثلاثتهم زهدوا في الحياة الرغيدة المريحة في القصور الملكية مؤثرين عليها حياة الزهاد والمتصوفة والمطاريد. كما أن الثلاثة هم إفراز مشاريع تبناها وتكفل برعايتها أفراد العائلة الملكية الحاكمة في السعودية، وثلاثتهم قاوموا إغراء الثراء والجاه، وثلاثتهم لا يعرفون الرحمة في التعامل مع خصومهم، وثلاثتهم لم يتسن تدميره والقضاء عليه إلا بمساعدة قوي أجنبية (تجري حالياً عملية تصفية أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة التابع له علي أيدي الولايات المتحدة الأمريكية والحكومات الأخري المتحالفة معها في حربها ضد الإرهاب). والثلاثة هم إفراز مجتمع تجري له عملية تغيير سريعة.
إنها رسالة واحدة صادرة عن ثلاث شخصيات تاريخية فصل بينها الزمن ووحدتها الجغرافيا. ولو تأمل المرء في البيئة الصحراوية الجافة والقاسية التي دارت فيها رحي ثورة الدويش والتي شكلت أفكاره ومنهج حياته النازع نحو الطهورية والنقاء وعبر عنها مظهره الباعث علي البؤس والرثاء (كما وصفه الضباط البريطانيون في الكويت أثناء وجوده في الأسر)، وهي نفس البيئة التي شهدت ترعرع جهيمان، لوجدها تختلف النذر اليسير عن البيئة التي لجأ إليها أسامة بن لادن في أفغانستان الحاضر. إلا أن ابن لادن، ولعل هنا مكمن البون الشاسع، ينشط في عالم تغير بشكل كبير بفضل التحولات الهائلة التي شهدتها الساحات المحلية والعالمية، سواء في المملكة العربية السعودية أو في الخارج. ففي المملكة العربية السعودية نجد اليوم شعباً متعلماً أكثر قابلية من أي وقت مضي لاستيعاب أحداث الساعة وأكثر وعياً بالمتغيرات السياسية التي عصفت بالبلاد علي مدي الخمسين عاماً الماضية. هذا بالإضافة إلي أن حرب الخليج عام 1990 ساهمت بدورها في خلق وعي سياسي غير مسبوق في البلاد.


يتبع ...