جزء 3
قال
الحادي عشر من سبتمبر والمشهد السعودي المحلي
من المألوف أن يلجأ المختصون بالشأن السعودي إلي البحث عن العوامل الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية التي أسهمت في تشكل ونمو ظاهرة ابن لادن ومن سبقه. وكان السؤال الأكثر إلحاحاً هو: لماذا أفرز المجتمع السعودي عدداً من المتمردين الطهوريين الذين يسبغون علي معارضتهم السياسية خطاباً دينياً متحدين بذلك السلطات الملكية في مجتمع عرف عنه طواعيته وإذعانه لهذه السلطات؟ ثم لماذا جمع هؤلاء المتمردون نقدهم للسياسات المحلية الداخلية مع هجوم لا يستكين علي علاقة الحكومة بالغرب، أولاً علي العلاقة ببريطانيا في النصف الأول من القرن العشرين ثم علي العلاقة بالولايات المتحدة الأمريكية في النصف الثاني منه؟
إحدي الأفكار المؤسفة ـ ولكنها شائعة ـ التي تتردد في أوساط الأكاديميين الغربيين ومن يسمون باللبراليين داخل المملكة العربية السعودية هي التركيز علي الإسلام بشكل عام وعلي ما يعتبرونه الصنف الوهابي منه بشكل خاص معتبرين ذلك مصدراً لإلهام وتحفيز الحركات المتمردة في السابق وظاهرة الإرهاب في الحاضر. ولا أدل علي ذلك من الهجوم الذي شنته وسائل الإعلام الأمريكية في الآونه الأخيرة علي نظام التعليم في المملكة العربية السعودية رابطة بشكل لا يحتمل اللبس التعليم والتوجيه الديني بالإرهاب. ويري أصحاب هذا القناعة بأن نظام التعليم الديني ينتج أفراداً كارهين وراهبين للأجانب يتغذون علي الحقد والشك تجاه تشكيلة من المخالفين لهم: اليهود والنصاري وغيرهم من غير المرغوب فيهم. وبمقتضي هذا التحليل فإن خريجي المدارس ومعاهد الدراسات الدينية العليا من السعوديين يخرجون من فصولهم وقاعات محاضراتهم متسلحين بخطاب يحولهم في سن البلوغ إلي أفراد لا يساومون ولديهم الاستعداد لإجابة نداء حي علي الجهاد والمشاركة في غير ذلك من النشاطات التي تدخل بعمومها ضمن تصنيف الإرهاب. مثل هذا التفكير ما هو إلا صدي لتفكير سبقه، وبالذات ذلك الذي نشأ كرد فعل علي الثورة الإيرانية حينما اعتبر عدد غير قليل من المعلقين فكرة الاستشهاد عند الشيعة سبباً في نجاح مشروع الجمهورية الإسلامية في إيران. وها هو الإسلام السني في شكله السعودي ينضم إلي المذهب الشيعي كإطار تحليلي وتفسيري لسلسلة متعاقبة من الأحداث بما في ذلك أحداث العنف التي شهدتها المملكة العربية السعودية خلال الشهور الستة الماضية.
يغيب عن بال المرجين لمثل هذا التحليل بإن الإسلام ما هو إلا نص يظل خاضعاً لتفسير الأفراد الذين هو بدورهم نتاج سياق تاريخي معين. وهؤلاء في معرفتهم للحالة السعودية محدودون جداً إذ لم يبلغهم علي سبيل المثال أن جل ما تتضمنه مناهج التعليم الديني في المدارس السعودية لا يتجاوز مسائل مبادئ الاعتقاد والأفعال والأخلاق، وكلها جمعت في باقة واحدة تحت عنوان العبادات والشعائر الإسلامية كالصلاة والصيام والحج. أما سيرة النبي صلي الله عليه وسلم فتفتح أمام الدارسين آفاقاً من التاريخ السياسي غاية في الثراء بما يشتمل عليه من تحالفات وصراعات مع غير المسلمين وما يصاحب ذلك من توازنات وتنازلات. وحتي لو افترضنا أن المعلمين والموجهين الدينيين يركزون علي أوجه التعارض والاختلاف مع غير المسلمين محفزين بذلك علي رفضهم وإقصائهم، فإن منهج التاريخ الإسلامي الذي يدرس في المدارس يقدم ما يكفي من الأدلة علي التنوع في العلاقة مع من يطلق عليهم مصطلح الكفار ، ولهذا يصعب الحديث عن نموذج إسلامي واحد في العلاقات مع غير المسلمين.
إضافة إلي ما سبق، لم يحدث حتي الآن أن قدم لنا أحد، بما في ذلك إخصاءوا علم الاجتماع أو علم النفس أو حتي الطب النفسي، توضيحاً للعلاقة بين التعليم أو التوجيه من جهة والفعل من جهة أخري، إذا ما يزال ثمة خلاف حول ما إذا كان الطلاب ينزعون إلي فعل ما يطلب منهم. لابد من وجود عوامل متعددة لها دور إما في تسهيل أو إعاقة عملية الاستيعاب التام فالتبني الكامل حتي من قبل أكثر الطلاب حماسة للمواد التعليمية التي تقدم في فصول الدراسة أو قاعات المحاضرات. ولذلك فإن من الأهمية بمكان تجاوز هذه الآراء والمقولات غير الصحيحة، وخاصة تلك التي تقصر الأمر علي عامل التعليم لأنها تنزع إلي الاعتماد علي فرضيات خاطئة أو أحكام غير موفقة. لئن كان أسامة بن لادن قد نجح في إلهاب مخيلة السعوديين، فإن ذلك لا يمكن أن يعزي لفكرة أن برامج التعليم التي يخضعون لها تعدهم لانتهاج التطرف وإنما يعزي إلي الجاذبية التي تتمتع بها شخصيته والتي تروق للشباب الذين خابت آمالهم وباتوا يشعرون بإحباط بالغ في بلد أحوج ما يحتاج إليه اليوم هو قيادة شابة مفعمة بالحيوية والقدرة علي العطاء، ذلك البلد الذي يقوم علي رأس الأمر فيه اليوم بدلاً من ذلك زعماء ردوا إلي أرذل العمر وتملكهم الفساد والأسن.
بالرغم من أن عقوداً تباعد ما بين الشخصيات الثلاث التي تتناولها هذه المقالة، فإن حقيقة ثابتة واحدة لم تتغير. فنظراً لأن رمزية المملكة العربية السعودية تتعدي مواطنيها وتتجاوز الساحة المحلية لتشمل العالم الإسلامي بأسره، فإن لمتمرديها الإسلاميين تأثيراً يتجاوز كثيراً تأثير المتمردين الذين يمكن أن يوصفوا بأنهم علمانيون أو يساريون أو اشتراكيون أو قوميون. ففي الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين حصلت المملكة علي نصيبها من أمثال هؤلاء إلا أنهم جميعاً وبلا استثناء تواروا في صفحات النسيان التاريخي، والسبب في ذلك أنهم فشلوا في تضمين معارضتهم ما يجد صدي لدي عامة الناس، أي الإرث الثقافي الإسلامي للملكة العربية السعودية. صحيح أن قيادة البلد تدعي حماية الإسلام ومقدساته وقضاياه، ولكن هنا تكمن المشكلة. فالحكومة التي تستقي شرعيتها من هذا المصدر المهم لا مفر من أن تواجه معارضة تستند إلي الممارسة التقليدية للتفسير وإعادة التفسير، والتي تحتل مكان الصدارة في الإسلام. وبتقلده منصب خادم الحرمين الشريفين فإن العاهل السعودي يخضع نفسه لمسؤوليات مستمدة من هذا التراث الإسلامي المقدس. ولكنه غير معصوم كبشر، وحكومته يمكن أن ترتكب الأخطاء، ويظل سلوكه وسلوك من هم في حاشيته تحت المجهر وعرضة للنقد. كانت القيادة السعودية ضمن سياق تعزيز الدولة وتحديث المؤسسات في البلاد قد اتخذت قرارات اعتبرها كثير من الناس انحرافاً عن الإسلام الأصيل، وكانت إحدي إبرز تلك الانحرافات الاعتماد المستمر علي الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي يمتعض منه أصحاب الاختصاص في الدراسات الإسلامية ويؤيدهم في ذلك الغالبية العظمي من السعوديين الذين لا يروق لهم استمرار حكامهم في الاعتماد علي هذه القوة الأجنبية في سبيل ضمان أمنهم. ولكن لابد من الإشارة هنا إلي أنه ليس من الواضح علي الإطلاق كيف يضمن الوجود العسكري الأمريكي في البلاد أمن العائلة السعودية الحاكمة أو يوفر لهم الحماية. بل إن الذي تجلي بوضوح بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) هو أن مثل هذا الوجود العسكري الأمريكي في المملكة العربية السعودية إنما هو مصدر خطر لا مصدر أمن أو حماية. كما يغيظ السعوديين أن تتعرض أراضيهم للانتهاك ومنظومتهم الأخلاقية للهجوم من قبل قوي العولمة والرأسمالية العالمية. ومع ذلك لا يمكن مقارنة هذا الاستياء بالمشاعر المماثلة التي تنتشر في أوساط شعوب بلدان إسلامية أخري وذلك لسبب مهم جداً، ألا وهو اعتبار المملكة العربية السعودية مهد الإسلام ومقر أهم مقدساته علي الإطلاق. ولعل هذه الرمزية المهمة هي التي تعيق التوصل إلي مساومات حينما تتعلق القضية بمسألة فقدان دولة إسلامية حظيت بنعمة الثراء الهائل إرادتها الحرة وقدرتها علي التصرف باستقلالية تامة. بل يري معظم السعوديين بأن بلادهم لم توفق في ترجمة ما تنعم به من رمزية دينية وثروة طبيعية هائلة إلي قوة حقيقية علي الساحة الدولية. وما يزال العقم السياسي للملكة العربية السعودية علي المستوي الدولي يشكل إحباطاً للجمهور السعودي اليوم تماماً كما شكل إحباطاً للسعوديين عبر العقود الأولي من تاريخ المملكة. ولعل انعدام حل المشكلة الفلسطينية حتي الآن من أكثر ما يذكر بفشل المملكة العربية السعودية في ترجمة خطابها حول مساندة قضايا الإسلام والمسلمين إلي فعل حقيقي. وحينما يضاف إلي هذا العقم سوء إدارة المشهد السياسي المحلي وتبديد الثروة القومية والفساد المستشري في أعلي المستويات القيادية وانعدام الثقة بالمستقبل الاقتصادي فنحن بصدد حالة متفجرة تولد المتمردين من أمثال المذكورين آنفاً. وهنا تتداخل السياسة الداخلية بالســياسة الدولية وتتشابكان بحيث يصبح من المتعذر فصل الواحدة عن الأخري. كما تولد هذه الحالة آراء حول العالم تراه منقسماً إلي فسطاطين: نحن و هم . بينما توجد في معظم البلدان الإسلامية الأخري أرضية متوسطة تساهم في تجسير الهوة بين الطرفين يظل التعايش المريح أمراً بعيد المنال في المملكة العربية السعودية، والمشكلة هنا لا تكمن في التوجيه الديني أو في مناهج التعليم الدراسية أو حتي في البحوث اللاهوتية التي تندد بغير المسلمين وإنما تكمن في انعدام التنمية الاقتصادية والسياسية الحقيقية والتي من شأنها لو حصلت أن تساعد السعوديين علي تحديد أسلوب التعامل مع الدعاة والتفاعل مع مؤسسات التعليم الديني.
يتبع...
|