عرض مشاركة مفردة
  #4  
قديم 28-11-2003, 10:09 PM
الهادئ الهادئ غير متصل
جهاد النفس الجهاد الأكبر
 
تاريخ التّسجيل: Aug 2003
الإقامة: بلد الأزهر الشريف
المشاركات: 1,208
إفتراضي

من هو الشافعي


والشافعي هو محمد بن ادريس بن العباس بن شافع «وقد نسب الى هذا الجد» بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن المطلب بن عبد مناف ..
والمطلب هو شقيق هاشم بن عبدمناف .. وهاشم هو ابو عبدالمطلب جد النبي «ص» وكان هاشم يقود رحلة الشتاء الى الشام بقافلة قريش في الجاهلية ومات ودفن بغزة.
اما والدة الشافعي فهي حفيدة اخت السيدة فاطمة ام الامام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
وكان الشافعي يقول «علي بن أبي طالب ابن عمي وابن خالتي».
فهو قرشي الام والام وكان أبوه فقيرا خرج من مكة يلتمس سعة العيش في المدينة. ولكنه لم يجد ما يريد فخرج بأهله الى غزة ومات بها بعد مولد ابن محمد بنحو عامين.
ولم تطق الام المقام في غزة بعد وفاة زوجها فحملت وليدها محمدا الى عسقلان وهو ابن عامين، وكان يرابط بها جيش من المسلمين، و كانت عسقلان تسمى اذ ذاك «عروس الشام» وخيرها دافق والعيش بها رائق.
غير أن العيش لم يرق للارملة الصغيرة في عسقلان، فحملت ابنها محمدا الى مكة موطنها وموطن ابائه واجداده، لعيش في قومه قريش، ولينال نصيبه من المال وهو سهم ذوي القربى ولكن حظه من هذا المال كان ضئيلا لم يسمح له ولأمه الا بحياة خشنة، عرف خلالها الحرمان منذ نعومة اظفاره.
وعندما شب الطفل الحقته امه بمكتب في مكة. ولكنها لم تجد أجر المعلم .. «فكان المعلم يقصر في تعليم الصبي الا ان المعلم كلما علما صبيا شيئا كان الشافعي يتلقف ذلك الكلام. ثم اذا قام المعلم من مكانه أخذ الشافعي يعلم الصبيان تلك الاشياء فنظر المعلم فرأى الشافعي يكفيه من أمر الصبيان أكثر من الاجرة التي يطمع بها منه فترك طلب الاجرة واستمرت هذه الاحوال حتى تعلم الشافعي القرآن كله وهو ابن سبع سنوات».
ثم وجهته امه الى اتقان تلاوة القرآن وتجويده وتفسيره على شيوخ التفسير والترتيل والتجويد في المسجد الحرام .. حتى اذا بلغ الثالثة عشرة كان قد أتقن القرآن حفظا وترتيلا وادراكا لما يقرأ بقدر ما يتيحه عمره.
وكان عذب الصوت .. في ترتيله خشوع وايقاع حزين تخالجه الرهبة من خشية الله .. فكان حين يقرأ القرآن في المسجد الحرام يتساقط الناس بين يديه ويكثر عجيجهم بالبكاء من حسن صوته فاذا رأى ذلك امسك.
بعد ذلك اتجه الى حفظ الحديث ولزم حلقات شيوخ التفسير وأهل الحديث وكان الورق غالي الثمن فكان يلتقط العظام العريضة فيكتب عليها أو يذهب الى الديوان فيجمع الاوراق المهملة التي القي بها فيكتب على ظهرها ..
كان يجد مشقة في الحصول على ورق الكتابة، فاعتمد على الحفظ وهكذا تكونت له حافظة قوية .. حتى لقد كان يحفظ كل ما يلقى عليه.

الشافعي و اللسان العربي المبين


لاحظ الشافعي أثناء اقامته في مكة أن لغة قريش قد دخلها الغريب من كلمات وتعبيرات المسلمين الجدد من الموالي غير العرب . فلم يعد لسانها هو اللسان العربي المبين...!
ثم انه في تأمله للقرآن والاحاديث شعر بأنه في حاجة الى زاد لغوي كبير والى تفهم أعمق لمعاني الكلمات واسرار التراكيب .. وكان يشهد دروس الليث بن سعد امام مصر وهو حينذاك فقيه كبير يتحلق حوله الطلاب في المسجد الحرام كلما جاء حاجا او معتمرا ..
في احدى حلقات الليث الى جوار مقام ابراهيم نصح مستمعيه أن يتقنوا اللغة واسرار بلاغتها وفنون آدابها .. وان يحفظوا الشعر الذي سبق نزول القرآن الكريم وعاصره ليحسنوا فهم معاني الكتاب المنزل والاحاديث ..
ولكن نصح الامام الليث مستمعيه ان يخرجوا الى البادية فيتعلموا كلام «هذيل» ويحفظوا شعرهم .. فهذيل هم افصح العرب وشعر الهذليين عامر بكنوز اللغة.
ولقد حفظ الليث نفسه اشعار الهذليين .. واستشهد بها في تفسير بعض كلمات القرآن. كما فعل ابن عباس من قبل وهو شيخ المفسرين.
وخرج الفتى محمد بن ادريس الشافعي الى بادية قريبة من مكة وعاش في مضارب خيامهم يحفظ عنهم اشعارهم وتراكيبهم اللغوية يرحل برحيلهم وينزل بنزولهم ويتعلم منهم.
ثم رجع الى مكة ينشد اشعارهم ويذكر عنهم الاخبار .. كما قال هو نفسه حتى ان الاصمعي وهو شيخ اللغويين قال وهو في اوجه شهرته:
«صححت اشعار الهذليين على فتى من قريش يقال له محمد بن ادريس ...».
لزم الشافعي هذيلا نحو عشر سنين، عكف فيها على دراسة اللغة وآدابها . وحفظ الشعر وتعلم منهم الرماية والفروسية وبرع فيهما، حتى لقد كان يأخذ بأذن الفرس وهو يجرى فيثب عليه في براعة وتمكن!
واتقن الرمي حتى قال عندما تقدم به العمر : «كانت همتي في شيئين: في الرمي والعلم فصرت في الرمي بحيث اصيب عشرة من عشرة ـ ثم سكت عن العلم، فقال احد الحاضرين: أنت والله في العمل أكثر منك في الرمي».
عاد من البادية اذن فارسا متفوقا في البداية في الرماية، ، ناصع البيان، في صدره الى جوار القرآن والحديث، ثروة ضخمة من الشعر والآداب والاخبار والفقه واللغة.
وعاد يجلس الى حلقات شيوخه في المسجد الحرام.

الشافعي و الإفتاء


جلس الى اهل الحديث والمفسرين من اتباع ابن عباس .. والى العلماء والفقهاء من اتباع الامام جعفر الصادق .. وكانوا جميعا ينهلون من علم الامام علي بن أبي طالب.
وعلى الرغم من أنه قد جاوز العشرين، وأصبح يملك القدرة على اختيار شيوخه في المسجد الحرام فقد تعود ان يسأل أمه النصيحة فتشير عليه بأسماء الشيوخ الذين ينبغي له ان يلزمهم .. وكانت امه حافظة للقرآن والحديث بصيرة بأحكام الشريعة. ولقد ردت قاضي مكة حين استدعاها للشهادة هي وامرأة اخرى وأراد ان يفرق بينهما، فطلبت ان تشهد الواحدة امام الاخرى. وذكرت بالآية الكريمة: (أن تضل احداهما فتذكر احداهما الاخرى).
وكان الشافعي بارا بوالدته .. مستمعا لنصائحها وقد وجهته الى فقه الامام علي بن أبي طالب، ونصحته ان يلتمسه من تلاميذ ابن عباس وتلاميذ الامام جعفر الصادق، وكان مقاتل بن سليمان هو أعلاهم شأنا وابصرهم بالقرآن وتفسيره وبالحديث والفقه ..
وقد توقف الشافعي وهو ينظر في تفسير القرآن عند آية (وقد خاب من دساها)..
ولم يعرف معنى كلمة دساها، فلم تكن قد عرضت له من قبل. ولم يجد الكلمة فيما تعلم من لغة العرب. وخرج الى ظاهر مكة يسأل فيها بطنا من هذيل، وهم افصح العرب فلم يجد عندهم جوابا وطاف على شيوخ الحلقات من أهل الاثر ومفسري القرآن، فلم يظفر بجواب شاف .. وهمه الامر وغمه، فلاذ بأمه يسألها النصيحة فوجهته الى مقاتل بن سليمان تلميذ الامام الصادق . وذهب الشافعي الى حلقة مقاتل بن سليمان فقال له مقاتل: دساها من لغة السودان «ومعناها أغواها»...
اكتمل للشافعي علم حسن بالقرآن والحديث وآثار الصحابة، وثراء لغوي يفتح مغاليق المعاني، وذوق أدبي يتيح له أن يدرك لطائف البلاغة واسرار البيان.
وقال له أحد شيوخه: «آن لك أن تفتي».
ولكن الشافعي تهيب الفتيا، فما كان إلا شابا صغيرا في سن أبناء المفتين من أصحاب الحلقات في المسجد الحرام... وهو بعد لم يحصل على كل ما يريد من فقه المدينة، حيث يشع علم الإمام مالك، ولا من فقه العراق حيث ما زال صدى جليل من آراء الإمام الراحل أبي حنيفة يدوي في جنبات المسجد الكبير بالكوفة، وحلقات بغداد، وحيث ما زال تلاميذه أب يوسف ومحمد ابن الحسن وغيرهما يجادلون عن إمامهم ويضيفون الى تراثه الجدلي.
ثم إن الفتى لم يعرف كما ينبغي فقه الأوزاعي بالشام، ولا فقه الليث بمصر.. هذا الفقه الذي اتسم بالتوفيق بين أهل الرأي وأهل الحديث، والذي يحترم الحزبين جميعا، يتميز بعمق الإدراك لروح الشريعة ومقاصد الشارع، ويواجه في يسر معجز كل ما يطرحه العصر من مسائل وقضايا.
وقرر أن يرحل في طلب الفقه من كل مدارسه، كما رحل من قبل يلتمس الفصحى من خير منابعها.
وأستأذن أمه أن يرحل الى المدينة المنورة ليدرس على الإمام مالك فأذنت له..