عرض مشاركة مفردة
  #5  
قديم 28-11-2003, 10:14 PM
الهادئ الهادئ غير متصل
جهاد النفس الجهاد الأكبر
 
تاريخ التّسجيل: Aug 2003
الإقامة: بلد الأزهر الشريف
المشاركات: 1,208
إفتراضي

الشافعي و مالك


كان الفتى إذ ذاك في نحو العشرين، خلبه مالك حين جاء الى المسجد الحرام فألقى بعض الدروس، وأخذته هيبة مالك وحسن معرفته بالحديث.
وعرف عن مالك أنه على الرغم من سماحته، صارم في عمله، لا يبيح وقته للناس، ولا يستقبل من يطرق باب داره خلال ساعات العمل أو الراحة..
ولكن الشافعي لا يريد أن يكتفي بحضور دروس مالك في المسجد النبوي، وهي مباحة للعامة، بل يريد أن يلزمه ليتلقى منه علمه، وليتاح له أن يسأله ويحاوره...
ومالك لا يأذن بالحوار في دروسه ويطرد من حلقته كل من خالف تقاليد الدرس..!!
ما السبيل إلى الإمام مالك إذن!؟
قرر الشافعي أن يحسن إعداد نفسه للقاء الإمام مالك... فبحث عن كتابه «الموطأ» الذي أخرجه مالك منذ حين واضعا فيه كل فقهه وكل ما صح عنده من الأحاديث النبوية الشريفة.
ووجد الشافعي نسخا من الكتاب لكنها غالية الثمن، وهو رقيق الحال.. فاستعار الكتاب من أحد شيوخه في مكة عكف عليه النهار والليل، حتى حفظ الكتاب بحافظته المدربة التي تعود الاعتماد عليها منذ كان لا يجد ثمن الورق، ومنذ كان يدرس بالمكتب وهو صبي.
وزاده حفظ كتاب «الموطأ» شوقا الى لقاء الإمام مالك والى صحبته..!
وجهزته أمه للسفر الى المدينة وباعت في ذلك بعض أثاث الدار..
إنها لهجرة في سبيل العلم فهي في سبيل الله.
ورأت أمه أن تسهل له لقاء مالك، فوسطت بعض أقاربها الى والي مكة، ليعطي ولدها كتابا الى والي المدينة، عسى أن يتوسط للشافعي فيلقى مالكا ويلزمه.
ويحكي الشافعي عن هذه التجربة بعد أن أخذ كتاب توصية من والي مكة الى والي المدينة والى الإمام مالك.
قال الشافعي: «فقدمت المدينة، فأبلغت الكتاب الى الوالي فلما قرأه قال: يا فتى إن مشيي من جوف مكة الى جوف المدينة حافيا راجلا أهون علي من المشي الى باب مالك بن أنس. فلست أرى الذل حتى أقف على بابه. فقلت: أصلح الله الأمير. إن رأى الأمير يوجه اليه ليحضر. فقال: هيهات ليت أني لو ركبت أنا ومن معي، وأصابنا من تراب العقيق نلنا بعض حاجتنا..! فواعدته العصر، وركبنا جميعا فوالله لكان كما قال. لقد أصابنا من تراب العقيق، (والعقيق حي بالمدينة يسكنه مالك) فتقدم رجل منا فقرع الباب فخرجت إلينا جارية سوداء فقال لها الأمير: قولي لمولاك إني بالباب، فدخلت فأبطأت. ثم خرجت فقالت: إن مولاي يقرئك السلام ويقول إن كانت لديك مسألة فارفعها في رقعة يخرج اليك الجواب. وإن كان للحديث فقد عرفت يوم المجلس فانصرف. فقال لها: قولي له إن معي كتاب والي مكة اليه في حاجة مهمة. فدخلت وخرجت وفي يدها كرسي، فوضعته ثم إذا بمالك قد خرج، عليه المهابة والوقار وهو شيخ طويل مسنون اللحية، فجلس وهو متطلس (يلبس الطليسان) فرفع إليه الوالي الكتاب. فبلغ الى هذا «إن هذا رجل يهمني أمره وحاله فتحدثه وتفعل وتصنع» فرمى الكتاب من يده ثم قال: سبحان الله، أو صار علم رسول الله(صلى الله عليه) يؤخذ بالرسائل؟! فرأيت الوالي قد تهيب أن يكلمه. فتقدمت وقلت: أصلحك الله، إني رجل مطلبي (من بني المطلب) وحدثته عن حالي وقصتي... فلما سمع كلامي نظر إلي، وكان لمالك فراسة فقال: ما اسمك: قلت محمد. فقال: «يا محمد إنه سيكون لك شأن وأي شأن. إن الله تعالى قد ألقى على قلبك نورا فلا تطفئه بالمعصية. إذا ما جاء الغد تجيء ويجيء ما يقرأ لك». فغدوت عليه ومعي (الموطأ) وابتدأت أن أقرأ ظاهرا (من الحافظة) والكتاب في يدي. فكلما تهيبت مالكا وأردت أن أقطع، أعجبه حسن قراءتي وإعرابي فيقل: «يا فتى زد»، حتى قرأته عليه في أيام يسيرة.»
ومنذ ذلك اللقاء عام 170 هـ لزم الشافعي مالكا حتى مات الإمام مالك عام 179هـ.
لم يتركه الشافعي إلا ليزور أمه بمكة، أو ليقوم برحلة الى إحدى عواصم العلم والفقه.. وكان يستأذن شيخه مالكا بن أنس فإذا أذن له جهزه بزاد ومال ودعا الله له.
وفي المدينة التقى الشافعي بمحمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة وشيخ أهل الرأي في العراق، والتقى ببعض تلاميذ جعفر الصادق، وتعلم منهم بعض فقه الإمام الصادق وأقضية الإمام علي كرم الله وجهه.. وتعلم من مذهب الإمام الصادق أن العقل هو أقوى أدوات الإستنباط حين لا يكون نص. العقل وحده هو أداة فهم النصوص لا الإتباع ولا التقليد!
وتعلم من تلاميذ الإمام الصادق رأي الإمام في حقيقة العلم.. فالعلم ليس حفظ القرآن والحديث ومعرفة الآثار فحسب، ولكنه يشمل كل العلوم الطبيعية والرياضية التي تفسر ظواهر الكون وتكشف عن قدرة الخالق.
وهكذا قرر أن يتعلم تلك العلم الطبيعية والرياضية، فتعلم من خلال رحلاته علوم الكيمياء والطب والفيزياء. وتعلم الحساب والعلوم التي تجري عليها التجارة وعلم الفلك والتنجيم وهو فرع من العلوم الرياضية. وتعلم الفراسة، ومارسها.
وقد تعرف الى عدد من فقهاء مصر من تلاميذ الليث، وكان من عادتهم بعد الحج أن يزروا المدينة ليصلوا في الحرم النبي وليسمعوا لمالك. وقد أملى الشافعي «الموطأ» على بعضهم ونشأت بينه وبينهم صداقة انتفع بها عندما هاجر الى مصر ومنهم ابن عبد الحكم.
ولقد رأى يوما في الروضة الشريفة بين القبر والمنبر فتى جميل الوجه نظيف الثياب حسن الصلاة، فتوسم فيه خيرا، وحدثه فعرف أنه من الكوفة بالعراق فسأله: «من العالم لها والمتكلم في نص كتاب الله عز وجل، والمفتي بأخبار رسول الله(صلى الله عليه)» فقال: «محمد بن الحسن وابو يوسف صاحبا أبي حنيفة»: فقال الشافعي: «ومتى عزمتم تظعنون؟» فقال الشاب: «غداة عند انفجار الفجر».
وذهب الشافعي الى شيخه ليستأذنه أن يرحل في طلب العلم، فقال له شيخه مالك: «العلم فائدة يرجع منها الى عائدة. ألم تعلم بأن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يطلب؟».
فلما كان السحر وانفجر الفجر، سار مالك مودعا تلميذه الشافعي عند محطة القوافل بالبقيع خارج المدينة.
وصاح مالك يسأل عمن يؤجر راحلة الى الكوفة، فقال له تلميذه الشافعي: «لم تكتري لي راحلة ولا شيء معك ولا شيء معي؟» فقال مالك له: «لما انصرفت عني البارحة بعد صلاة العشاء الآخرة، قرع علي قارع الباب، فخرجت اليه، فسألني قبول هدية فقبلتها فدفع إلي صرة فيها مائة مثقال وقد أتيتك بنصفها وجعلت النصف لعيالي». وكان الطارق هو أحد تلاميذ الإمام الليث، حمله الليث هذه الهدية لصديقه الإمام مالك وكان الليث قد تعود أن يصل مالكا بالهدايا الثمينة والمال الكثير.
خرج الشافعي من المدينة ه شاب في الثانية العشرين، فوصل الكوفة بعد رحلة شاقة استغرقت أربعة وعشرون يوما، فاستضافه محمد ابن الحسن، وتحاورا في الفقه، وحضر حلقاته وحلقات زميله أبي يوسف.
وكتب الشافعي كل ما وجد عند صاحبي أبي حنيفة من فقه الإمام الأعظم، وعندما ترك الكوفة كان معه من الكتب حمل بعير.
ثم طاف في بلاد فارس، والتقى بشيوخها وجرت بينه وبينهم محاورات، ثم سافر الى ديار ربيعة مضر، وألم ببعض قبائل البدو، فاصاب ما عندهم من الفصحى.. وطاف في هذه الرحلة ببغداد وشمال العراق والأناضول وحران ثم سافر الى بلاد الشام وزار أمه بمكة..
وعاد بعد عامين الى المدينة وقد تزود بكثير من المعارف وكان يسأل طوال الرحلة عن أخبار شيخه مالك، فعرف أنه قد اتسعت أرزاقه وأصاب الغنى، فقد أجرى عليه الخليفة راتبا كبيرا، ووصله بالأموال والهدايا الثمينة..
وقصد الشافعي الحرم النبوي، وبينما هو يتهيأ للجلوس في المسجد في حلقة الإمام مالك، إذ فاح عطر في المسجد فتهامس من في المسجد إنه مالك.. ورأى مالكا يدخل المسجد وحوله جماعة يحملون ذيله حتى جلس على كرسيه الذي أعد له من قبل وعليه حشية ومن حوله الدفاتر. وبدأ مالك درسه فطرح مسألة على تلاميذه لفلم يجبه أحد. وظل يطرح مسائل وما من مجيب.!
فضاق صدر الشافعي، فنظر الى رجل بجانبه، وهمس إليه بالجاب.. واستمر مالك يسأل والرجل يجيب بما يهمس إليه الشافعي، فسأل مالك: من أين لك هذا العلم؟ فقال الرجل: «إن بجانبي شابا يقول لي الجواب». فاستدعى مالك ذلك الشاب فإذا هو الشافعي.. ولم يكن مالك قد استطاع أن يراه في زحام الحلقة، فرحب به مالك، وضمه الى صدره، ونزل عن كرسيه وقال له: «أتمم أنت هذا الباب».
رضي مالك عن شرح تلميذه الشافعي، وما انتهى الدرس، حتى أخذه الى بيته وأغدق عليه.
وحكى الشافعي لأستاذه عن كل ما تعلمه ولقيه في رحلته من طرائف.
حكى له عن تجربته مع علم الفراسة، وكان مالك ينصح تلميذه ألا ينصرف الى غير علوم الشريعة، وما يعين على الفقه بها وفهم النصوص استنباط الأحكام، والإهتمام باللغة وآدابها، وحفظ أخبار العرب وأيامهم، وحفظ الشعر الجاهلي، لأن كل أولك أدوات لفهم نصوص القرآن والأحاديث.. أما الفراسة ففي نفس مالك شيء منها..!
حكى الشافعي لشيخه مروحا عنه بعض ما صادفه مع علم الفراسة.. فقد مر في رحلته برجل يقف في فناء بيته، وهو رجل أزرق العينين بارز الجبين، وتأمل الشافعي ملامحه، وقال لنفسه: «إن علم الفراسة يدل على أن هذا الرجل لئيم خبيث». وكان الشافعي مجهدا يلتمس مكانا يستريح فيه. قال الشافعي: «سألت الرجل:هل من منزل؟» قال: «نعم». وأنزلني فما رأيت أكرم منه! وبعث إلي بعشاء طيب، وعلف لدابتي، وفراش ولحاف. فقلت : «أعلم الفراسة دل على غاية دناءة هذا الرجل وأنا لم أشاهد منه إلا خيرا. فهذا العلم باطل! ولما أصبحت قلت للغلام: أسرج الدابة، فلما أردت الخروج قلت للرجل: إذا قدمت مكة ومررت بذي طوى فاسأل عن منزل محمد ابن إدريس: فقال الرجل: أعبد أبيك أنا؟! أين ثمن الذي تكلفت لك البارحة؟! قلت: وما هو؟ قال: اشتريك له بدرهمين طعاما، وأدما بكذا وعطرا بكذا، وعلف دابتك بكذا، واللحاف بكذا.. قلت: يا غلام أعطه فهل بقي شيء؟ قال كراء المنزل فإني وسعت عليك وضيقت على نفسي.
فضحك مالك.. وأكمل الشافعي: فعظم اعتقادي في علم الفراسة.. ولم يجبه مالك بغير الضحكات.. وقلما كان يضحك!
***
عاد الشافعي من هذه الرحلة باحترام كبير للإمام أبي حنيفة النعمان فقد قرأه على صاحبيه أبي يوسف ومحمد بن الحسن، وأعجب بطريقته في الحوار والإستنباط، وبسعة أفقه، وروى عنه كثيرا من حيله، ودافع عنه.
وكانا في الحجاز يهاجمون أبا حنيفة ويتهمونه بأنه لا يحسن علم الحديث، فنافح عنه الشافعي ووضعه في مكانه، وعلمهم أن الناس «في الفقه عيال على أبي حنيفة»..
استقر الشافعي بالمدينة تلميذا للإمام مالك، ثم بدأت تستقيم له طريقة في الجدل، فهو يلقي بالحجة دون أن يرفع صوته، وقول لمجادله: «خذ مكاني وآخذ مكانك»... ويقول الرأي، والرأي المضاد، حتى ينتهي من هذا الأسلوب الجدلي الى الحقيقة.
وأخذ ينتصف لأهل الرأي من أهل الحديث، وينصف أهل الحديث من أهل الرأي، ويقاوم التعصب المذهبي..