عرض مشاركة مفردة
  #11  
قديم 28-01-2004, 02:21 PM
ابو رائد ابو رائد غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Jul 2003
المشاركات: 1,296
إفتراضي

من مذكرات فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي

فقد مات الرجل الذي قهرنا وأذل كبرياءنا، وذقنا على يديه ألوان العذاب.. الرجل الذي سجن رجالنا، وسجن كل من يساعد أسرنا بعشرة قروش؛ حتى يموت أولادنا من الجوع، وتضطر نساؤنا إلى مد اليد، أو ما هو أكثر من ذلك، تحت قهر الحاجة، وعضة الجوع، والجوع كافر لا يرحم.. الرجل الذي علق المشانق لدعاتنا وعلمائنا: عبد القادر عودة، ومحمد فرغلي، وسيد قطب وغيرهم. والذي قتل أكثر من عشرين منا جهرة في ليمان طرة، وقتل آخرين خفية في أتون التعذيب.. وتحت لهيب السياط والكي بالنار، وغيرها من الآليات المستوردة من النازية والشيوعية.

الرجل الذي منعنا من حقنا في وظائف الدولة، ونحن أولى الناس بها بمقتضى مؤهلاتنا، وتقدمنا في ترتيب الناجحين، وألجأنا إلى أن نطرق أبواب المدارس الخاصة؛ ليردنا من يردنا، ويقبلنا من يقبلنا على هون!

الرجل الذي سلط علينا أجهزة إعلامه -مقروءة ومسموعة ومرئية- لتفتري علينا الأكاذيب، وتتقول علينا الأقاويل، وتشوه وجه دعوتنا، وترمي بالإفك رجالنا، ولا تمكننا من أن نقول كلمة في رد البهتان، وتفنيد الافتراء.

الرجل الذي أغلق دُورنا، وعطل مسيرتنا، وعوق دعوتنا، وجمد حركتنا، في حين أطلق الحرية للشيوعيين واللادينيين!


لقد مات الرجل المسئول الأول عن ذلك كله؛ فمن حقنا أن نتنفس الصعداء، وأن نستبشر بموته، وأن نتوقع تغييرا من وراء ذلك يكون في صالحنا، وفي صالح وطننا وأمتنا. "فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا" [الشرح: 6،5].

هكذا كان موقفنا نحن الإخوان المسلمين الذين أصابنا ما أصابنا في عهد عبد الناصر، وكنا من ضحايا جبروت هذا النظام الشمولي الطاغوتي الذي قهرنا وقهر شعب مصر كله معنا.


وحتى بناء "السد العالي" ذكروا من آثاره السلبية ما ذكروا، وأنه "هدف عسكري" سهل لإسرائيل، يمكن أن تلجأ لضربه في ساعة البأس، عندما تحيط بها المخاطر في وقت ما، وفي هذا غرق مصر وهلاك الحرث والنسل.

وقد استطاع إعلامه الذي برع في الكذب وقلب الحقائق أن يجعل هزيمة سنة 1956 نصرا يحتفل به كل عام. مع أن البغدادي يقول في مذكراته: إنه قال له: نحن ضيعنا البلد. وإنه ليس أمام مجلس الثورة وأعضائه إلا أن ينتحروا جميعا. وطلب من زكريا محيي الدين إحضار زجاجة من السم "سيانور البوتاسيوم" تكفي لعدد الأعضاء وأكد كلامه بقوله: إني جاد فيما أقول!.

أنه ألغى الحياة الديمقراطية من مصر، وهي من أوائل الديمقراطيات في الشرق، وفرض على الناس دكتاتورية الحزب الواحد، الذي اختلفت تسميته من "هيئة التحرير" إلى "الاتحاد القومي" إلى "الاتحاد الاشتراكي" ولم يسمح لمعارض أن يكون له صوت يسمع، وإن كان من رفقائه في الثورة، ابتداء من رشاد مهنا، إلى محمد نجيب، إلى خالد محيي الدين، إلى عبد المنعم عبد الرؤوف، إلى آخرين. حتى خطيب ثورته والمتحدث الديني باسمه، لم يسلم من أذاه
وبطشه، وهو الشيخ أحمد حسن الباقوري، فقد طوح به، وطرده من منصبه شر طرده، لا لشيء إلا لأن رجلا ذم في بيته عبد الناصر، وهو الأديب المحقق محمود شاكر، وقد قيل: إن الباقوري لم يكن حاضرا وقت الكلام عن عبد الناصر!.


الإساءة إلى الدين والشريعة، حين ألغى المحاكم الشرعية، وأساء إلى قضاتها بتلفيق تهم لهم لم يثبتها قضاء عادل، وأصدر قانون تطوير الأزهر الذي يتاح فيه للكليات المدنية في جامعة الأزهر أن تأخذ خيرة طلابه، وأن لا يبقى للكليات الأصلية الدينية "أصول الدين والشريعة واللغة العربية" غير المتردية والنطيحة وما يعاف السبع أن يأكله. هذا مع أني رفضت هذا التفسير، ودافعت عن التطوير في الجزء الثاني من هذه المذكرات.

كما سخر عبد الناصر من علماء الدين في خطبه، واتهمهم بأن أحدهم من أجل وليمة عند إقطاعي، يقدم فيها خروف أو ديك رومي: يبيع دينه، ويصدر فتواه في إقرار المظالم الواقعة على الفلاحين، وهضم حقوقهم، وأكل عرقهم


إنه سياسي فاشل. وفرق بين الفاشل والظالم! ولكن الفشل إذا تكرر واستمر يصبح كارثة على الوطن، وعلى الأمة. ففشل الفرد العادي وإخفاقه على نفسه، أما فشل الزعيم المستمر، ففيه خسارة الأمة وتأخرها، وضياع فرصها في النهوض والتقدم.

إن شر ما فعله عبد الناصر في مصر أنه أذل الإنسان المصري وقهره، وأحياه في خوف دائم أن يدهمه زوّار منتصف الليل، أو زوار الفجر، من كلاب الصيد، فتتخطّفه، وتذهب به إلى مكان سحيق وراء الشمس، لا يستطيع أحد الوصول إليه، وقد أصبح المصريون يتجسس بعضهم على بعض، ويشك بعضهم في بعض، حتى أصبح الأخ يتجسس على أخيه، بل الابن على أبيه، وفقدت الأسرة الثقة بعضهم ببعض.


وقد اعترف الرئيس أنور السادات في كتابه "البحث عن الذات" بما زرعته الثورة من خوف ملأ صدور الناس، وشل إرادتهم، حين قال: انتهى مجلس الثورة في 22 يونيو سنة 1956م، عندما انتخب جمال عبد الناصر رئيسا للجمهورية بالاستفتاء. ولكن قبل أن ينتهي المجلس كان الشعور بالخوف قد عم البلاد.. هذا في رأيي أبشع ما يمكن أن يصيب الإنسان! فالخوف يقتل الشخصية، ويشل الإرادة، ويمسخ تصرفات البشر!.

لقد انتهى مصير القضية إلى نكبة حزيران أو يونيو 1967م واحتلت إسرائيل ما بين القنطرة في مصر والقنيطرة في سوريا. أي احتلت سيناء والجولان مع الضفة الغربية وغزة، بل اعترف عبد الناصر بلسانه في خطابه في 23 يوليو 1967م أن الطريق كان مفتوحا أمام إسرائيل إلى القاهرة ودمشق.


ومن قرأ "الميثاق" الذي يمثل فكر عبد الناصر: وجد فيه رشحات من الفكر الماركسي في مواضع شتى، ولكن لا نستطيع أن نصف الميثاق بأنه ماركسيّ تماما.
نجد أثر الماركسية في تقليص الجانب الإيماني والفكرة الغيبية والقيم الروحية، فلا تكاد تحسها وتشعر بها.
كما لا نجد أثرا لشريعة الإسلام الذي يدين به عبد الناصر، ويدين به شعب مصر. بل قال وهو يتحدث عن الأسرة: لا بد أن نسقط بقايا الأغلال التي تكبل الأسرة. والسياق يبين أنه يشير إلى التشريعات الإسلامية في الزواج والطلاق وغيرها.


لم يشتهر عنه إقامة الصلوات، التي فرضها الله على المسلمين خمس مرات في اليوم والليلة. لم يقل أحد ممن كتبوا عنه: إنه دخل عليه فوجده يقيم الصلاة، أو إنه دعا زواره يوما ليقيم معهم الصلاة، أو إنه في مجلس من المجالس التي كان يعقدها توقف مرة ليصلي وحده، أو مع زملائه.

ولم يحك مؤرخ عبد الناصر الملازم له ـ أعني الأستاذ هيكل ـ شيئا من ذلك، على كثرة ما حكى من تفصيلات حياته، في الحضر والسفر، والخلوة والجلوة.

حتى صلاة الجمعة لم يعرف أين كان يصليها عبد الناصر، ولقد حكم عبد الناصر ثمانية عشر عاما، كل سنة فيها 52 جمعة، فأين كان يصلي هذه الجمع؟
__________________