وقفات داعية على مفهوم النصر
إن مفهوم النصر هو مفهوم عقدي , وهو أن الله هو الناصر ، وهو يعتبر جزءا من مفهوم التوكل على الله ، فالتوكل على الله هو الاعتقاد الجازم بأنّ الله هو القادر و المعين و الناصر ، و هو مالك الملك يؤتي الملك من يشاء، و ينزع الملك ممن يشاء ، و يعزّ من يشاء ، و يذلّ من يشاء ، وهو المدبّر وحده كل أمر يسير بحول منه و قوة و تدبير، و يجب على المسلم أن يعتمد على الله وحده لا شريك له في إنجاز الأعمال و قطف الثمار ، هذا هو مفهوم التوكل على الله ، فلذلك كان النصر لا يطلب إلا من الله وحده ، قال تعالى : ( إن ينصركم الله فلا غالب لكم و إن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده و على الله فليتوكل المؤمنون ) .
و مفهوم النصر هو يتفق مفهوم الرزق و الأجل من جهة أن الرزق و الأجل و النصر هو فعل قضائي ، وهو من أفعال الله سبحانه التي تقع على الإنسان ، فهي من الدائرة التي تُسيطر على الإنسان و ليست من الدائرة التي يُسيطر عليها الإنسان ، و من جهة أخرى يختلف مفهوم النصر عن مفهوم الرزق و الأجل من حيث أن الرزق و الأجل ليس لهما ارتباط بالكسب الاختياري ، أي ليس لهما علاقة بالدائرة التي يُسيطر عليها الإنسان ، وأمّا النصر فله ارتباط بالكسب الاختياري ، أي له علاقة بالدائرة التي يُسيطر عليها الإنسان ، قال تعالى : ( إنّا لننصر رسلنا و الذين امنوا في الحياة الدنيا و يوم يقوم الأشهاد ) ، و قال تعالى : ( و ما جعله الله إلا بشرى لكم و لتطمئنّ قلوبكم به و ما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ) ، و قال تعالى : ( و لم تكن له فئة ينصرونه من دون الله و ما كان منتصرا ) ، و قال تعالى : ( يا أيها الذين امنوا إن تنصروا الله ينصركم و يثبّت أقدامكم ) ، و قال تعالى : ( إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم ) ، و قال تعالى : ( و عد الله الذين امنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم و ليمكنّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم و ليبدلنّهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئا ) ، و لذلك كان التلبس بالأعمال و الأخذ بالأسباب يستوجب النصر من الله حتماً ، و هذا ما تدلّ عليه الآيات دلالة قطعية ، فقول الله تعالى : ( إن تنصروا الله ينصركم ) ، و قوله تعالى : ( و عد الله الذين امنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض ) ، يدلّ دلالة قطعية بأنّ القيام بمقتضى الوعد يستوجب إنجاز الوعد حتما ، لأنّ الله لا يُخلف وعده ، فكان القيام بالشرط يستوجب وقوع المشروط حتما ، و لذلك لا يُقال أنّه قد تؤخذ الأسباب و يُتلبّس بالأعمال ولا يقع النصر من الله ، لأنّ ذلك يضرب بصريح الآيات القطعية الدلالة, وهذا باطل ، و كذلك فان التخلف عن الأخذ بالأسباب وعدم التلبس بالأعمال يحجب النصر حتما ، و ذلك مصداقا لقوله تعالى : ( إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم ) ، فارتباط العمل بالنصر هو ارتباط حتمي فبوجود العمل يوجد النصر و بعدمه ينعدم .
إن مفهوم النصر متعلق بالفرد و الكتلة و الدولة ، و لكن المراد بحثه هنا هو النصر المتعلق بالكتلة ، و يُقاس عليه النصر المتعلق بالفرد و الدولة ، فالكتلة العاملة لنصر الله تبغي من عملها الغلبة و المنعة و الظهور و الاستخلاف و التمكين في الأرض من أجل تمكين و تطبيق دين الله عز وجل ، قال تعالى : ( الذين إن مكنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة و أمروا بالمعروف و نهوا عن المنكر ) ، و هذا الأمر لا يتأتّى إلا باستجابة الأمة أو جزء منها للكتلة بأن تحتضنها و تلتف حولها ، وان يقوم أهل القوة و المنعة في الأمة بإعطاء السلطان لها من أجل تطبيق أحكام ربها في الأرض ، و هذا هو النصر من الله ، و هذا ما حصل مع رسولنا الكريم عليه الصلاة و السلام و كتلته كتلة الصحابة رضوان الله عليهم إذ سخّر الله لهم أهل المدينة لنصرتهم فسمّوا الأنصار ، فاستُخلف الرسول عليه الصلاة و السلام على أهل المدينة و طبّق عليهم شرع ربّه ، فإذا قامت الكتلة بأخذ الأسباب الكاملة و استحضار الشروط اللازمة للنصر فانّ الله سبحانه يدفع الأمة للاستجابة للكتلة فيتحقق للكتلة الاستخلاف و التمكين ، وان قصرت الكتلة بالأخذ بالأسباب الكاملة و التمسك بالشروط اللازمة فان الله يدفع الأمة للإحجام عن الكتلة فيُحجب عنها النصر و تُمنع من الاستخلاف و التمكين ، لذلك كانت الكتلة العاملة لنصر الله هي المسئولة أولا و أخيرا عن حصول النصر من الله لها ، لأنها هي التي تعمل ، و هي التي تبغي الاستخلاف على الأمة لتطبيق دين ربها ، ولذلك ليست الأمة هي المسئولة عن حصول النصر و الاستخلاف للكتلة ، و كذلك لا تُحاسب الكتلة بأعمال الأمة من حيث تحقق النصر أو عدم تحققه لها ، لأنّ أعمال الأمة بالنسبة للكتلة هي فعل قضائي من الله ، أي أن استجابة الأمة للكتلة أو عدم استجابتها هو فعل قضائي من الله سبحانه ، و هذا ما يتبيّن من قول الله عز وجل : ( وعد الله الذين امنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض ) ، حيث إن الوعد بالاستخلاف و التمكين جاء خاصا للذين امنوا و عملوا الصالحات و قاموا بنصر دين الله عز وجل ، و لم يأتِ الوعد عامّاً لكل الأمة لأنّ ( منكم ) في الآية هي للتبعيض ، أي أن البعض من الأمة الذين قاموا بنصر دين الله سوف يكون لهم الاستخلاف و التمكين على الأمة.
ومن كل ما ذُكر سابقا يتبيّن أنّ على أفراد الكتلة الذين يبغون لكتلتهم الاستخلاف و التمكين في الأرض أن يحرصوا على الأخذ بالأسباب الكاملة و الشروط اللازمة و أن يهتموا بأنفسهم اهتماما بالغا ، بأن يجعلوا أنفسهم إسلاما يمشي على الطريق ، و ذلك بالتقيّد بأوامر الله ونواهيه والالتزام بطاعته والاجتهاد فيها ، وترك المعاصي الظاهرة منها والباطنة ، وأن يكونوا أقوياء بربهم أعزاء بدينهم ، وان يتدبروا قول الله عز وجل : ( و اتقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة ) ، وقوله : ( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنّى هذا قل هو من عند أنفسكم ) ، لان نصر الله غالٍ و سنن الله لا تحابي أحدا ، فللنصر أسباب و للهزيمة أسباب ، فمن وفقه الله لأسباب النصر نصره الله ، ومن لم يوفق إليها فلا يلومنّ إلا نفسه ، قال تعالى : ( ليس بأمانيّكم و لا أمانيّ أهل الكتاب من يعمل سوءا يُجزى به ولا يجد له من دون الله وليّا ولا نصيرا ) ، فإذا أراد أفراد الكتلة النصر لكتلتهم فلا بد لهم من اتخاذ أسباب النصر كما اتخذها الصحابة رضوان الله عليهم .
|