خطبة الجمعة في المسجد الحرام بمكة المكرمة
لفضيلة الشيخ : عبد الرحمن السديس
بتاريخ : 5- 1-1422هـ
بعنوان: دروس مستفادة من الهجرة النبوية
الحمد لله مقدر المقدور، ومصرف الأيام والشهور، ومجري الأعوام والدهور، أحمده تعالى وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره. إليه تصير الأمور، وهو العفو الغفور. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تنفع صاحبها يوم يُبعثّرُ ما في القبور ويُحصّلُ ما في الصدور، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله النبي المجتبى والحبيب المصطفى، والعبد الشكور صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما امتدت البحور، وتعاقب العشيُّ والبكور، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم النشور وسلم تسليما كثيرا، أما بعد:
فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله، فهي أربح المكاسب، وأجزل المواهب، وأسمى المناقب، وبها تُنال أعلى المراتب، وتتحقق أعظم المطالب.
عباد الله، تعيش الأمة الإسلامية هذه الأيام إشراقة سنة هجرية جديدة وإطلالة عام مبارك بإذن الله بعد أن أَفَلَت شمس عام كامل مضى بأفراحه وأتراحه، فقوِّضت خيامه وتصرّمت أيامه فالله المستعان عباد الله، ما أسرع مرور الليالي والأيام، وتصرّم الشهور والأعوام، لكن الموفق الملهم من أخذ من ذلك دروسا وعبرا، واستفاد منه مدكراًً ومزدجراً، وتزود من المَمَرِّ للمقر، فإلى الله سبحانه المرجع والمستقر، والكيس المُسَدَّد من حاذر الغفلة عن الدار الآخرة حتى لا يعيش في غمرة، ويؤخذ على غرة فيكون بعد ذلك عظة وعبرة، والله نسأل أن يجعل من هذا العام نصرة للإسلام والمسلمين وصلاح لأحوالهم في كل مكان وأن يعيده على الأمة الإسلامية بالخير والنصر والتمكين إنه جواد كريم.
أخوة الإسلام، حديث المناسبة في مطلع كل عام هجري ما سطّره تأريخنا الإسلامي المجيد من أحداث عظيمة، ووقائع جسيمة لها مكانتها الإسلامية ولها آثارها البليغة في عزِّ هذه الأمة وقوتها وصلاح شريعتها لكل زمان ومكان وسعيها في تحقيق مصالح العباد في أمور المعاش والمعاد.
معاشر المسلمين، ما أجمل أن نشير إشارات عابرة لعدد من القضايا المهمة الجديرة بالإشادة والتذكير ونحن في بداية هذا العام الجديد علها تكون سببا في شحذ الهمم، واستنهاض العزمات للتمسك الجاد بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وحاملة على الاتعاظ والاعتبار. ووقفات المحاسبة الدقيقة ونظرات المراجعة المستديمة في الأمة، تجديدا في المواقف وإصلاحا في المناهج وتقويما للمسيرة في كافة جوانبها.
أخوة العقيدة، وأول هذه الإشارات مع حدث الساعة وحديثها، الحدث الذي غير مجرى التأريخ، الحدث الذي يحمل في طياته معاني الشجاعة والتضحية والإباء والصبر والنصر والفداء والتوكل والقوة والإخاء والاعتزاز بالله وحده مهما بلغ كيد الأعداء، إنه حدث الهجرة النبوية الذي جعله الله سبحانه طريقا للنصر والعزة ورفع راية الإسلام وتشييد دولته وإقامة صرح حضارته، فما كان لنور الإسلام أن يشع في جميع أرجاء المعمورة لو بقي حبيسا في مهده، ولله الحكمة البالغة في شرعه وكونه وخلقه.
إن في هذا الحدث العظيم من الآيات البينات والآثار النيرات والدروس والعبر البالغات ما لو استلهمته أمة الإسلام اليوم وعملت على ضوئه وهي تعيش على مفترق الطرق لتحقق لها عزها وقوتها ومكانتها وهيبتها، ولعلمت علم اليقين أنه لا حل لمشكلاتها ولا صلاح لأحوالها إلا بالتمسك بإسلامها والتزامها بعقيدتها وإيمانها، فوالذي بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق بشيرا ونذيرا ما قامت الدنيا إلا بقيام الدين ولا نال المسلمون العزة والكرامة والنصر والتمكين إلا لما خضعوا لرب العالمين، وهيهات أن يحل أمن ورخاء وسلام إلا باتباع نهج الأنبياء والمرسلين، إذا تحقق ذلك -أيها المسلمون- وتذكرت الأمة هذه الحقائق الناصعة وعملت على تحقيقها في واقع حياتها كانت هي السلاح الفاعل الذي تقاتل به والدرع الحصين الذي تتقي به في وجه الهجمات الكاسحة والصراع العالمي العنيف فالقوة لله جميعا والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين.
أمة التوحيد والوحدة، لقد أكدت دروس الهجرة النبوية أن عزة الأمة تكمن في تحقيق كلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة عليها، وأن أي تفريق في أمر العقيدة أو تقصير في أخوة الدين مآله ضعف الأفراد وتفكك المجتمع وهزيمة الأمة، وإن المتأمل في هزائم الأمم وانتكاسات الشعوب عبر التأريخ يجد أن مردّ ذلك إلى التفريط في أمر العقيدة والتساهل في جانب الثوابت المعنوية مهما تقدمت الوسائل المادية، وقوة الإيمان تفعل الأعاجيب وتجعل المؤمن صادقا في الثقة بالله والاطمئنان إليه والاتكال عليه لا سيما في الشدائد، ينظر أبو بكر الصديق t إلى مواضع أقدام المشركين حول الغار فيقول: ( يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لأبصرنا ) فيجيبه صلى الله عليه وسلم جواب الواثق بنصر الله: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما" الله أكبر، ما أعظم لطف الله بعباده ونصره لأوليائه، وفي هذا درس بليغ لدعاة الحق وأهل الإصلاح في الأمة أنه مهما احلولكت الظلمات فوعد الله آت لا محالة [ حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا ] .
.. يتبع ..