# خــارج الـســـرب .
ما المطلوب ممن يريد الإنتماء إلى هذا العصر ويصبح أحد أبطاله ؟ أهـو التجرد من كل شئ ، والتحرر من كل شئ أيضاً بحيث يعود كطفل ولدته أمه لتوها ، وما عليه إلا أ، يكون سطحاً أملس ينطبع عليه كل ما ينعكس عن الآخرين من قول أو عمل ؟ أم أن يكون هامشاً للصفحة ، ومرآة يرى فيها الآخرون جنونهم ؟ المطلوب في غاية البساطة ، فقط ليرمي إنسان هذا العصر نفسه كبالون في مهب الريح ، ليدع جسده يطفو على السطح كسفينة وسط البحر ، من دون أن يكلف نفسه حك رأسه أو يفكر في طريقه ومصيره ، أو يتعب بصره باالنظر إلى بوصلته ، إن كان لديه بوصلة . فهناك من يفكر عنه ويسير أموره لينقله إلى بـر الأمان ، وما عليه سوى أن يغط في نـوم عميق ويحلم أحـلاماً سعيدة ليجد نفسه وقد تحققت جميع أحلامه .
ليس مطلوباً منه أكثر من أن يكون تمثالاً أمام التلفاز ، بيده " الريمـوت " وفي الأخرى " الموبايل " يقتني سيارة يقضي بها حوائجه ، وخادمة تعد له طعامه ، وإن أراد أ، يصبح عضواً من الدرجة الأولى ، فلا بأس أن يتحرر من كل ملابسه أو ينسلخ عن جلده ، وتتبدل على جسده كل حين آخر صيحات العلامات التجارية العالمية ، وتحكم مساره وهمسه ولمسه ، فــن قـواعـد " الإتيـكـيت " وتصنع الحديث والسلوك التي لم تترك له كذبة إلا ولقنته إياها في كل مواقف الحياة اليومية ، حتى في علاقته مع زوجته وتنشئته لأطفاله .
فـي زمـن أصبح فيه التمسك باالقيم والفضائل أمراً خارجاً عن العـادة .. مثيراً للشبهـة .. تنعت فيه الأصالة باالتطـرف ، والإلتزام باالتخلف ، زمـن يفرض على عبيده ترديد كل ما يسمعـون ، وتصـديق وتقليد كل ما يـرون من دون أن يسمح لعقولهم المقيدة أن تقيم وتحكم بحيث أصبح من الصعوبة بمكان على من هم داخل السرب التمييز بين الصواب والخطأ ، والأصل والفرع ، والشكل والأرضية ، فيصبح كل منهم مجرد دمية تحركها الخيوط عن بعد .. مربوطة أطرافها بأصابع يخفيها الظلام ، لا تتحكم بأجسادهم فحسب ، بل بعواطفهم وإنفعالاتهم أيضاً .
إن كان هذا هو المطلوب عمله ممن هم داخل السرب ، وهذه شروط الإلتحاق به ونيل شرف عضويته .. فإنه شرف عظيم لنا أن نكون من البعيدين عنه ، نلتقط شخصيتنا قبل أن تذوب وتتهـاوى في الوحل ، ونحافظ على بصماتنا الثقافية والحضارية التي تميزنا عن غيرنا ، وننتمي إلى ما تبقى لدينا من قيم .