في شهر ايار (مايو) من عام 2002 أعلنت المملكة العربية السعودية بأن بإمكان رجال الأعمال السعوديين استئناف نشاطاتهم التجارية مع العراق وتصدير المواد إليه. وما لبث أن تبع ذلك التوقيع علي اتفاقية مع الحكومة العراقية لإعادة فتح مركز عرعر الحدودي دعماً وتحسيناً للعلاقات الاقتصادية وتشجيعاً وتحفيزاً علي الاستثمار. ولعل أحد أبرز العوامل التي ساهمـــــت في تسريع التقارب بين العراق والمملكة العربية السعودية في تلك الفتــرة كان الحرب الأمريكية علي الإرهاب (ابتداءً من عام 2001) والشكوك والعداوة الأمريكية المتنامية ضد المملكة العربية السعودية التي كانت فيما سبق تعتبر من قبل الولايات المتحدة الأمريكية حليفاً مهماً في وسط منطقة معادية.
الموقف السعودي الرسمي تجاه الحرب
ما أن بدا واضحاً أن غزو الولايات المتحدة الأمريكية للعراق بات أمراً محتماً ووشيكاً حتي اكتنف أوساط الحكومة السعودية شعور بالحيرة والقلق، فهل كان من مصلحة المملكة العربية السعودية أن يستبدل نظام البعث بحكومة عراقية موالية للغرب تضخ النفط بكميات تفوق تلك التي تضخها المملكة نفسها؟ بالإضافة إلي ذلك انتاب المملكة العربية السعودية قلق شديد إزاء احتمال قيام حكومة عراقية شيعية موالية لإيران بمحاذاتها بعد سقوط النظام العراقي البعثي. ولهذا كان من الضرورة بمكان أن تحسن الحكومة السعودية إدارة الأزمة وترشيد ردود أفعالها حرصاً علي الحلف الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية من أن يفقد قيمته دون أن يخل ذلك بالحرص علي أن تبدو المملكة ـ في الظاهر علي الأقل ـ متضامنة مع الرفض العربي للعدوان الأمريكي انسجاماً مع مشاعر الشعب السعودي.
في صيف عام 2002 أصبحت قضية التعاون السعودي مع الولايات المتحدة الأمريكية في حربها ضد العراق ملحة، مما حدا بوزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل لأن يؤكد بأن من الحكمة أن يعطي الحل الدبلوماسي فرصة قبل اللجوء إلي الحرب، وهذا هو ما نطلب من الولايات المتحدة الأمريكية أن تفعله . وحينما سئل عما إذا كانت المملكة العربية السعودية ستسمح بنشر مزيد من القوات الأمريكية في الأراضي السعودية أجاب وزير الخارجية: في الظروف الحالية ودون دليل علي أن العراق يشكل مصدر خطر وشيك، لا أظن أن المملكة العربية السعودية سوف تنضم إلي (التحالف الذي تقوده أمريكا ضد العراق .
في تشرين الأول (اكتوبر) من عام 2002 أعلنت المملكة العربية السعودية بأن استخدام المرافق العسكرية السعودية للهجوم علي العراق يمكن أن يسمح به شريطة أن توافق الأمم المتحدة علي الحملة العسكرية ضده. وفي الرابع من تشرين الثاني (نوفمبر) 2002 أخبر وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل محطة سي إن إن بأنه حتي في حالة حصلت الحملة العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية ضد العراق علي مباركة الأمم المتحدة فإن المملكة ما كانت لتسمح باستخدام قواعدها الجوية في هذه الحملة. في نفس الشهر، وفي خطاب بثه التلفزيون السعودي، أصر ولي العهد السعودي الأمير عبد الله بن عبد العزيز بأن قواتنا لن تخطو خطوة واحدة داخل الحدود العراقية تحت أي ظرف من الظروف ، وأضاف بأننا لا نقبل بأن تهدد هذه الحرب وحدة العراق وسيادته كما لا نقبل بأن تخضع موارده وأمنه الداخلي للاحتلال العسكري . وطالب الأمير عبد الله بـ عراق موحد وحر ومستقل، وهو مبدأ نرفض التفاوض حوله أو مناقشته . وغدا واضحاً بمقدم اذار (مارس) 2003 بأن المملكة العربية السعودية لن تلعب دوراً محورياً في حالة ما إذا هاجمت الولايات المتحدة الأمريكية العراق، بل ستلعب دوراً ثانوياً. وما فتئت المملكة العربية السعودية تضغط علي الولايات المتحدة حتي لا تكشف للعالم الخارجي عن استخدامها للمملكة العربية السعودية كمنصة انطلاق لهجماتها .
عكس هذا التناقض والغموض في الموقف السعودي حقيقة أن المملكة العربية السعودية كانت شديدة الحرص علي ألا تبدو الأرض التي يمكن أن تدير منها الولايات المتحدة الأمريكية حملتها لإسقاط نظام عربي مجاور. كما تعكس هذه التصريحات المتباينة انعدام الإجماع في أوساط كبار أفراد العائلة المالكة، وبشكل رئيسي ولي العهد الأمير عبد الله، ووزير الدفاع والطيران الأمير سلطان، ووزير الخارجية الأمير سعود الفيصل. ولذلك استمرت المملكة العربية السعودية خلال الشهور الصعبة التي سبقت اندلاع الحرب في الدعوة إلي حل دبلوماسي وسلمي للأزمة وذلك من خلال منح المفتشين الدوليين مزيداً من الوقت وحث صدام حسين علي التعاون مع فريق التفتيش التابع للأمم المتحدة وعلي تطبيق قرار الأمم المتحدة رقم 1441. لقد كان ذلك منسجماً مع الموقف العربي الرسمي الجماعي الذي تمخض عن قمة جامعة الدول العربية التي انعقدت عام 2002 في بيروت والتي أعلن فيها بأن الاعتداء علي العراق سيعد اعتداء علي السيادة الوطنية لجميع الدول العربية . كان الخطاب السعودي استجابة مباشرة للمخاوف من استثارة وإغضاب المشهد المحلي السعودي الذي كان بمجمله معارضاً للحرب ومناهضاً للولايات المتحدة الأمريكية، وخاصة إثر الجدل المحموم في وسائل الإعلام في الولايات المتحدة الأمريكية بشأن المملكة العربية السعودية والاتهامات التي كالتها هذه الوسائل للمملكة بأنها تدعم الإرهاب سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. وكانت المملكة العربية السعودية ـ وإثر ما لحق بسمعتها من تسويد في الولايات المتحدة الأمريكية بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر ـ قد لجأت إلي شركة علاقات عامة لتحسين وضعها في الولايات المتحدة الأمريكية بينما أعطت ضوءاً أخضر في نفس الوقت لمفكرين وعلماء الدين والقانونيين الدوليين والكتاب والصحفيين فيها للرد علي الهجمات التي كانت تشنها وسائل الإعلام الأمريكية ضدها. وفعلاً، استغل مئات السعوديين بحماس شديد هذه الفرصة بعد عقود من الرقابة الصارمة التي كانت الحكومة تفرضها عليهم كلما سعوا إلي تحليل وتقييم السياسات الأمريكية تجاه بلدهم وتجاه الوجود الأمريكي السعودي وما كانوا يعتبرونه انحيازاً أمريكياً لصالح إسرائيل في الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني.
كان الموقف السعودي الرسمي معارضاً للحرب، إلا أن الحكومة سمحت للقوات الأمريكية باستخدام القواعد العسكرية لتوجيه الطائرات ورصد العمليات العسكرية. وبينما نفت المملكة العربية السعودية ذلك في العلن، إلا أن الموقف الحقيقي ما لبث أن انكشف بعد أن رفعت مجندة أمريكية قضية قانونية ضد وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) لأنها فرضت عليها ارتداء الحجاب خارج قاعدة الأمير سلطان الجوية بالقرب من الرياض بينما كانت تعمل ضمن فريق مكلف برصد العمليات العسكرية أثناء الحرب علي العراق. وكان الموقف الرسمي قد أعلن يوم الثامن عشر من اذار (مارس) 2003، وأوضحه وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل بقوله: أولاً: لن تشارك المملكة في أي ظرف من الظروف في الحرب ضد البلد الشقيق العراق، وثانياً: نتوقع أن تنتهي الحرب بسبب الامتثال لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1441 الخاص بإزالة أسلحة الدمار الشامل، وثالثاً: نحن نتجنب الدخول في مغامرة غير مسؤولة من شأنها أن تهدد بلدنا وشعبنا . وكان الأمير سعود الفيصل قد اقترح أثناء الحرب وقفاً لإطلاق النار من شأنه أن يتيح الفرصة أمام الدبلوماسية . كما أفاد بأن المملكة العربية السعودية كانت قد اقترحت علي صدام حسين أن يخلع نفسه من السلطة، وذلك أنه (أي صدام) طلب من شعبه أن يضحي في سبيل البلاد، فمن الأحري أن يكون أول المضحين في سبيل بلده . بمعني آخر، طلبت المملكة العربية السعودية من صدام أن ينقذ بلده من خلال التنحي عن الحكم.
|