والقول الثاني : إن إحسان الإسلام معناه : أن يكون على رتبة الإحسان في العبادة التي جاءت في حديث جبريل المعروف ( قال : فأخبرني عن الإحسان قال : أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) فالذي يحسن إسلامه هو الذي وصل إلى مرتبة الإحسان ، إما على درجتها الأولى : درجة المراقبة ، أو على كمالها وهو : درجة المشاهدة .
وهذا القول الثاني ظاهر في الكمال ، ولكنه ليس ظاهرا في كل المراتب ؛ ولهذا قالت طائفة -أيضا- من أهل العلم : إن إحسان الإسلام ليس مرتبة واحدة بل الناس مختلفون فيها ، فبقدر إحسان الإسلام يكون له الفضل والثواب الذي أعطيه من أحسن إسلامه .
فمثلا: في قوله -عليه الصلاة والسلام- : ( إذا أحسن أحدكم إسلامه كان له بكل حسنة يعملها عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف ) قالوا هنا : عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف ، عشر حسنات لكل من أحسن الإسلام ، يعني: لمن كان له الإسلام ، وحسن منه فإنه يبدأ من عشر أضعاف للحسنة يعني تكتب له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، هذا بحسب درجته في إحسان الإسلام .
فدل تنوع الثواب على تنوع الإحسان ، يعني أن درجة الإحسان تختلف ، وأهل إحسان الإسلام فيه متفاوتون لتفاوت الفضل والمرتبة والأجر على ذلك فقال : "إلى سبعمائة ضعف" ، فمن أسباب مزيدها إلى سبعمائة ضعف أن يكون إحسانه للإسلام عظيما ؛ ولهذا قال ابن عباس وغيره من المفسرين : إن الحسنة بعشر أمثالها لكل أحد . يعني: لكل مسلم في قوله -جل وعلا- في آخر الأنعام : مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ {160} قال : هذا لكل أحد ، أما من أحسن إسلامه فإنه في قول الله -جل وعلا- : ( إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً {40}سورة النساء .. وهذا تقرير صحيح ، فإن الناس في إحسان الإسلام مراتب .
وهذه المسألة مشكلة ، يعني: لو راجعت في الشروح ، وكلام أهل العلم مشكلة ، لكن كلام أهل التحقيق الذين قرروا هذه المسألة بينوا أن إحسان الإسلام له مراتب ، يعني: ليس مرتبة واحدة ، وأن أهل المعصية ، يعني: من ظلم نفسه ، ليس من أهل إحسان الإسلام فقال : ( من حسن إسلام المرء ) يعني: هذا الفعل ، وهو ترك ما لا يعني من حسن إسلامه ، وهذا ظاهر في المرتبتين جميعا، فإن الذي يأتي الطاعات ، ويبتعد عن المحرمات فإنه منشغل بطاعة ربه عن أن يتكلف ما لا يعنيه.
وأما أهل الإحسان في مقام المراقبة ، أو ما هو أعظم منها ، وهو مشاهدة آثار العصمة والصفات في خليقة الله -جل وعلا- فهؤلاء منشغلون بإحسان العمل الظاهر والباطن عن أن يكون لهم هم فيما لا يعنيهم .
إذا تقرر هذا فما معنى قوله : ( ما لا يعنيه ) ؟ ما هو الذي يعني والذي لا يعني ؟ العناية في اللغة : شدة الاهتمام بالشيء ، أو الشيء المهم الذي يُهْتَم به ، والذي لا يعني وليس لي به عناية هو الشيء الذي لا ينفع المعتني به ، يعني: لا ينفع المتوجه إليه ، وليس له به مصلحة ، ومعلوم أن أمور الشرع المسلم له بها عناية ، وأن فقه الكتاب والسنة له به لكل مسلم به عناية ، يعني: فيشتد اهتمامه بها .
فإذاً الاهتمام بما فيه فقه للنصوص هذا مما يدل على حسن إسلام المرء ، قال : ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) بالمفهوم أن من حسن إسلام المرء الاهتمام بما يعنيه ، ما لا يعني المرء المسلم من الأقوال التي ليس لها نفع له في دينه ، ولا في دنياه أو في آخرته أو في أولاه ، فإن تركها من حسن إسلام المرء ، وهذا عام يشمل ما يتصل بفضول العلوم التي لا تنفعه ، وبفضول المعاملات ، وبفضول العلاقات ، ونحو ذلك فتركه ما لا يعنيه في دينه فإنه هذا دليل حسن إسلامه.
يعني: دليل رغبته في الخير؛ لأن التوسع ، أو إتيان ما لا يعني في العلاقات ، أو في الأقوال أو في السمع … إلخ هذا زريعة لأن يرتكب شيئا محرما ، أو أن يفرط في واجب ، تفوته رتبة المقتصدين التي هي أقل رتب أهل حسن الإسلام.
أدخل الشراح أيضا وهذا واضح وبَيِّن ، وقد جاء في بعض الأحاديث أن مما لا يعني المرء الكلام أو السماع ، الكلام نطقا أو سماع الكلام ، يعني: أن من حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه من الكلام ، سماعا أو نطقا ، وهذا ظاهر بين ؛ لأن اللسان هو مورد الزلل ، والأذن أيضا هي مورد الزلل ، فاللسان نطقا محاسب عليه العبد ( مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ {18}سورة ق .. وهذه الآية عامة ، فإن الملك يكتب كل شيء حتى الأشياء التي لا تؤاخذ بها .
.. يتبع ..