تابع
وكذلك يجب أن تعلموا أنكم تصيبون الكثيرين منهم فلا تتوانوا في نصرة الحق مهما كان الثمن باهظا لأن هذه سنة الله تعالى في الابتلاء والتمحيص قال تعالى :
قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ (137) هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (138) وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) سورة آل عمران
إن القرآن ليربط ماضي البشرية بحاضرها , وحاضرها بماضيها , فيشير من خلال ذلك كله إلى مستقبلها . وهؤلاء العرب الذين وجه إليهم القول أول مرة لم تكن حياتهم , ولم تكن معارفهم , ولم تكن تجاربهم - قبل الإسلام - لتسمح لهم بمثل هذه النظرة الشاملة . لولا هذا الإسلام - وكتابه القرآن - الذي أنشأهم به الله نشأة أخرى , وخلق به منهم أمة تقود الدنيا . .
إن النظام القبلي الذي كانوا يعيشون في ظله , ما كان ليقود تفكيرهم إلى الربط بين سكان الجزيرة وماجريات حياتهم ; فضلا على الربط بين سكان هذه الأرض وأحداثها , فضلا على الربط بين الأحداث العالمية والسنن الكونية التي تجري وفقها الحياة جميعا . . وهي نقلة بعيدة لم تنبع من البيئة , ولم تنشأ من مقتضيات الحياة في ذلك الزمان ! إنما حملتها إليهم هذه العقيدة . بل حملتهم إليها ! وارتقت بهم إلى مستواها , في ربع قرن من الزمان . على حين أن غيرهم من معاصريهم لم يرتفعوا إلى هذا الأفق من التفكير العالي إلا بعد قرون وقرون ; ولم يهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس الكونية , إلا بعد أجيال وأجيال . . فلما اهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس نسوا أن معها كذلك طلاقة المشيئة الإلهية , وأنه إلى الله تصير الأمور . . فأما هذه الأمة المختارة فقد استيقنت هذا كله , واتسع له تصورها , ووقع في حسها التوازن بين ثبات السنن وطلاقة المشيئة , فاستقامت حياتها على التعامل مع سنن الله الثابتة والاطمئنان - بعد هذا - إلى مشيئته الطليقة !
إن الكلمة الهادية لا يستشرفها إلا القلب المؤمن المفتوح للهدى . والعظة البالغة لا ينتفع بها إلا القلب التقي الذي يخفق لها ويتحرك بها . . والناس قلما ينقصهم العلم بالحق والباطل , وبالهدى والضلال . . إن الحق بطبيعته من الوضوح والظهور بحيث لا يحتاج إلى بيان طويل . إنما تنقص الناس الرغبة في الحق , والقدرة على اختيار طريقه . . والرغبة في الحق والقدرة على اختيار طريقه لا ينشئهما إلا الإيمان , ولا يحفظهما إلا التقوى . . ومن ثم تتكرر في القرآن أمثال هذه التقريرات . تنص على أن ما في هذا الكتاب من حق , ومن هدى , ومن نور , ومن موعظة , ومن عبرة . . . إنما هي للمؤمنين وللمتقين . فالإيمان والتقوى هما اللذان يشرحان القلب للهدى والنور والموعظة والعبرة . وهما اللذان يزينان للقلب اختيار الهدى والنور والانتفاع بالموعظة والعبرة . . واحتمال مشقات الطريق . . وهذا هو الأمر , وهذا هو لب المسألة . . لا مجرد العلم والمعرفة . . فكم ممن يعلمون ويعرفون , وهم في حمأة الباطل يتمرغون . إما خضوعا لشهوة لا يجدي معها العلم والمعرفة , وإما خوفا من أذى ينتظر حملة الحق وأصحاب الدعوة !
وبعد هذا البيان العريض يتجه إلى المسلمين بالتقوية والتأسية والتثبيت
(ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون . إن كنتم مؤمنين) . .
لا تهنوا - من الوهن والضعف - ولا تحزنوا - لما أصابكم ولما فاتكم - وأنتم الأعلون . . عقيدتكم أعلى فأنتم تسجدون لله وحده , وهم يسجدون لشيء من خلقه أو لبعض من خلقه ! ومنهجكم أعلى . فأنتم تسيرون على منهج من صنع الله , وهم يسيرون على منهج من صنع خلق الله ! ودوركم أعلى . فأنتم الأوصياء على هذه البشرية كلها , الهداة لهذه البشرية كلها , وهم شاردون عن النهج , ضالون عن الطريق . ومكانكم في الأرض أعلى , فلكم وراثة الأرض التي وعدكم الله بها , وهم إلى الفناء والنسيان صائرون . . فإن كنتم مؤمنين حقا فأنتم الأعلون . وإن كنتم مؤمنين حقا فلا تهنوا ولا تحزنوا . فإنما هي سنة الله أن تصابوا وتصيبوا , على أن تكون لكم العقبى بعد الجهاد والابتلاء والتمحيص:
(إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله . وتلك الأيام نداولها بين الناس . وليعلم الله الذين آمنوا , ويتخذ منكم شهداء . والله لا يحب الظالمين . وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين) . .
إن الشدة بعد الرخاء , والرخاء بعد الشدة , هما اللذان يكشفان عن معادن النفوس , وطبائع القلوب , ودرجة الغبش فيها والصفاء , ودرجة الهلع فيها والصبر , ودرجة الثقة فيها بالله أو القنوط , ودرجة الاستسلام فيها لقدر الله أو البرم به والجموح !
عندئذ يتميز الصف ويتكشف عن:مؤمنين ومنافقين , ويظهر هؤلاء وهؤلاء على حقيقتهم , وتتكشف في دنيا الناس دخائل نفوسهم . ويزول عن الصف ذلك الدخل وتلك الخلخلة التي تنشأ من قلة التناسق بين أعضائه وأفراده , وهم مختلطون مبهمون !
والله سبحانه يعلم المؤمنين والمنافقين . والله سبحانه يعلم ما تنطوي عليه الصدور . ولكن الأحداث ومداولة الأيام بين الناس تكشف المخبوء , وتجعله واقعا في حياة الناس , وتحول الإيمان إلى عمل ظاهر , وتحول النفاق كذلك إلى تصرف ظاهر , ومن ثم يتعلق به الحساب والجزاء . فالله سبحانه لا يحاسب الناس على ما يعلمه من أمرهم ولكن يحاسبهم على وقوعه منهم .
ومداولة الأيام , وتعاقب الشدة والرخاء , محك لا يخطىء , وميزان لا يظلم . والرخاء في هذا كالشدة . وكم من نفوس تصبر للشدة وتتماسك , ولكنها تتراخى بالرخاء وتنحل . والنفس المؤمنة هي التي تصبر للضراء ولا تستخفها السراء , وتتجه إلى الله في الحالين , وتوقن أن ما أصابها من الخير والشر فبإذن الله .
وقد كان الله يربي هذه الجماعة - وهي في مطالع خطواتها لقيادة البشرية - فرباها بهذا الابتلاء بالشدة بعد الابتلاء بالرخاء , والابتلاء بالهزيمة المريرة بعد الابتلاء بالنصر العجيب - وإن يكن هذا وهذه قد وقعا وفق أسبابهما ووفق سنن الله الجارية في النصر والهزيمة . لتتعلم هذه الجماعة أسباب النصر والهزيمة . ولتزيد طاعة لله , وتوكلا عليه , والتصاقا بركنه . ولتعرف طبيعة هذا المنهج وتكاليفه معرفة اليقين .
ويمضي السياق يكشف للأمة المسلمة عن جوانب من حكمة الله فيما وقع من أحداث المعركة , وفيما وراء مداولة الأيام بين الناس , وفيما بعد تمييز الصفوف , وعلم الله للمؤمنين:
(ويتخذ منكم شهداء) . .
وهو تعبير عجيب عن معنى عميق - إن الشهداء لمختارون . يختارهم الله من بين المجاهدين , ويتخذهم لنفسه - سبحانه - فما هي رزية إذن ولا خسارة أن يستشهد في سبيل الله من يستشهد . إنما هو اختيار وانتقاء , وتكريم واختصاص . . إن هؤلاء هم الذين اختصهم الله ورزقهم الشهادة , ليستخلصهم لنفسه - سبحانه - ويخصهم بقربه .
ثم هم شهداء يتخذهم الله , ويستشهدهم على هذا الحق الذي بعث به للناس . يستشهدهم فيؤدون الشهادة . يؤدونها أداء لا شبهة فيه , ولا مطعن عليه , ولا جدال حوله . يؤدونها بجهادهم حتى الموت في سبيل إحقاق هذا الحق , وتقريره في دنيا الناس . يطلب الله - سبحانه - منهم أداء هذه الشهادة , على أن ما جاءهم من عنده الحق ; وعلى أنهم آمنوا به , وتجردوا له , وأعزوه حتى أرخصوا كل شيء دونه ; وعلى أن حياة الناس لا تصلح ولا تستقيم إلا بهذا الحق ; وعلى أنهم هم استيقنوا هذا , فلم يألوا جهدا في كفاح الباطل وطرده من حياة الناس , وإقرار هذا الحق في عالمهم وتحقيق منهج الله في حكم الناس . . يستشهدهم الله على هذا كله فيشهدون . وتكون شهادتهم هي هذا الجهاد حتى الموت . وهي شهادة لا تقبل الجدال والمحال !
وكل من ينطق بالشهادتين:شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . لا يقال له أنه شهد , إلا أن يؤدي مدلول هذه الشهادة ومقتضاها . ومدلولها هو ألا يتخذ إلا الله إلها . ومن ثم لا يتلقى الشريعة إلا منالله . فأخص خصائص الألوهية التشريع للعباد ; وأخص خصائص العبودية التلقي من الله . . ومدلولها كذلك ألا يتلقى من الله إلا عن محمد بما أنه رسول الله . ولا يعتمد مصدرا آخر للتلقي إلا هذا المصدر . .
ومقتضى هذه الشهادة أن يجاهد إذن لتصبح الألوهية لله وحده في الأرض , كما بلغها محمد صلى الله عليه وسلم فيصبح المنهج الذي أراده الله للناس , والذي بلغه عنه محمد صلى الله عليه وسلم هو المنهج السائد والغالب والمطاع , وهو النظام الذي يصرف حياة الناس كلها بلا استثاء .
فإذا اقتضى هذا الأمر أن يموت في سبيله , فهو إذن شهيد . أي شاهد طلب الله إليه أداء هذه الشهادة فأداها . واتخذه الله شهيدا . . ورزقه هذا المقام .
(وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين) . .
والتمحيص درجة بعد الفرز والتمييز . التمحيص عملية تتم في داخل النفس , وفي مكنون الضمير . . إنها عملية كشف لمكنونات الشخصية , وتسليط الضوء على هذه المكنونات . تمهيدا لإخراج الدخل والدغل والأوشاب , وتركها نقية واضحة مستقرة على الحق , بلا غبش ولا ضباب . .
وكثيرا ما يجهل الإنسان نفسه , ومخابئها ودروبها ومنحنياتها . وكثيرا ما يجهل حقيقة ضعفها وقوتها , وحقيقة ما استكن فيها من رواسب , لا تظهر إلا بمثير !
وفي هذا التمحيص الذي يتولاه الله - سبحانه - بمداولة الأيام بين الناس بين الشدة والرخاء , يعلم المؤمنون من أنفسهم ما لم يكونوا يعلمونه قبل هذا المحك المرير:محك الأحداث والتجارب والمواقف العملية الواقعية .
ولقد يظن الإنسان في نفسه القدرة والشجاعة والتجرد والخلاص من الشح والحرص . . ثم إذا هو يكشف - على ضوء التجربة العملية , وفي مواجهة الأحداث الواقعية - إن في نفسه عقابيل لم تمحص . وأنه لم يتهيأ لمثل هذا المستوى من الضغوط ! ومن الخير أن يعلم هذا من نفسه , ليعاود المحاولة في سبكها من جديد , على مستوى الضغوط التي تقتضيها طبيعة هذه الدعوة , وعلى مستوى التكاليف التي تقتضيها هذه العقيدة !
والله - سبحانه - كان يربي هذه الجماعة المختارة لقيادة البشرية , وكان يريد بها أمرا في هذه الأرض . فمحصها هذا التمحيص , الذي تكشفت عنه الأحداث في أحد , لترتفع إلى مستوى الدور المقدر لها , وليتحقق على يديها قدر الله الذي ناطه بها:
يتبع
|