الموضوع: قرات لكم ....!!!
عرض مشاركة مفردة
  #2  
قديم 12-10-2004, 07:23 AM
صدّيق صدّيق غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Sep 2004
المشاركات: 32
إفتراضي قرأت لكم (2)

علي حرب
النقد القرآني .. نقد لأفكار اركون

لا ينبغي لقارىء أركون أن يعتدّ بتصريحاته عن القرآن، بل عليه أن ينتبه إلى تفكيكاته. وأركون هو أبرز مفككي النص القرآني والعقل اللاهوتي الذي جسده أو انبنى عليه. إنه يوظف ترسانة معرفية ومنهجية هائلة ضد تراث طويل من التفسير يقوم على التعامل مع القرآن بوعي ديني يتجاوز التاريخ ويعلو عليه (قراءة ص 112). ومعنى ذلك أن أركون يوظف تفكيكاته ضد المنطق اللاهوتي القرآني، ولا أقول ضد القرآن بالتحديد، ذلك أن النص، أي نص، هو في النهاية متعدد الخطوط والمساحات والطبقات. وهذا ينطبق على النص القرآني بامتياز. ففيه المتعالي والتاريخي، واللاهوت والناسوت، والقدسي والدنيوي.
من هنا فإن كلام أركون على الحجب الذي يمارسه النص الثاني على النص الأول، هو كلام مخادع مراوغ. ذلك أن هاجس أركون الأصلي هو تفكيك النص القرآني لتعرية آلياته في الحجب والتحوير والتحويل... هاجسه هو "خرق الممنوعات وانتهاك المحرمات" التي سادت فيما مضى وتسود اليوم، والتي "أقصت كل الأسئلة التي كانت قد طرحت في المرحلة الأولية والبدائية للإسلام، ثم سُكّرت وأغلق عليها" (قراءة، ص31). هذا ما يقوله أركون حرفياً. وإذا أردنا أن نعرف معنى ما يقال، فمطمح أركون هو نبش تلك الأسئلة والاعتراضات والمواقف التي جرى قمعها أو طمسها في عهد النبوة. وفي هذا إعادة اعتبار للذين أسكتهم خطاب الوحي من المشككين والمنكرين.
ولا مراء أن عمل أركون ينطوي على نزع هالة القداسة عن ظاهرة الوحي والنبوءة. من هنا أرى مدى التلاعب الذي يلجأ إليه أركون، مرة أخرى، في موقفه من مشكلة القداسة. يقول: "إن الدراسة العلمية للمقدّس لا تعني الانتقاص منه أو المس به. وإنما تعني فهماً أفضل لكل تجلياته وتحولاته، وتحذيراً لبعض الفئات أو بعض الأشخاص من التلاعب به لمصالح شخصية أو سلطوية. ويمكنني أن أقول بأن المقدّس الذي نعيش عليه أو معه اليوم لا علاقة له بالمقدس الذي كان للعرب في الكعبة قبل الإسلام ولا حتى بالمقدس الذي كان سائداً أيام النبي" (مواقف 59_60، ص 20). هذا الكلام لا يخلو من تضليل، لأن وظيفة التقديس هي تأسيس سلطة على البشر والعمل في الوقت نفسه على حجبها وإخفائها. هذا هو مآل قول القائل: لا حكم إلا الله، إنه تمويه سلطة الواحد على الآخر بردها إلى الغائب. أليس هذا ما فعله المسلمون الأوائل. ألم يستثمروا المجال الغيبي والقدسي "للوصول إلى سدة السلطة" على ما يتساءل أركون في موضع آخر (إسلام، ص23)؟ ولا يخفى أن ناقد العقل الاسلامي الذي يرعبه كشف الأوراق يجيب في مورد السؤال. إنه يقول لنا: هذا ما حصل في زمن التأسيس: لقد استثمرت ظاهرة الوحي لتقويض سلطة وإقامة أخرى مكانها، ووظف خطاب التعالي للإعلاء من شأن أناس والخفض من شأن آخرين. بالطبع ليس هذا ما يقوله أركون بحرفيته. ولكن هذا معنى تساؤله ومآل قوله.
السؤال المرعب
بداية النقد مساءلة. ولهذا افتتح نقدي بإثارة سؤال مُرجاً طالما طرحه أركون على نفسه أو جُوبِه به من قبل قرائه ومنتقديه، أو من قبل الذين يرون اشتباهاً في كلامه. والسؤال يتعلق بالموقف من القرآن: هل يطال النقد النص القرآني أم يقتصر على الشروحات والتفاسير؟ هذا هو "السؤال المرعب" على ما يصفه أركون. وللوصف مشروعيته، لأن هذا السؤال المقموع يضعنا مباشرة أمام سلطة المحرّم ورهبة المقدّس في الثقافة الاسلامية. فكيف يتعامل معه ناقد العقل الاسلامي؟ هي يصدع بأمر الوحي أم يُخضِعه لآلته النقدية التفكيكية؟
يبدو لي أن أركون يتردد في الإجابة. إنه يجيب كل مرة إجابة مختلفة تنبىء عن الحرج والخشية في مواجهة هذه المشكلة الحساسة. بل هو يلجأ إلى الحيلة والمداورة، بمعنى أنه يجيب ولا يجيب. مرةّ يقول: من المستحيل عملياً في اللحظة الراهنة فتح مناقشة نقدية تاريخية أو حتى مناقشة تأويلية بخصوص القرآن (قراءة، ص51). ومرة أخرى يذهب إلى أن مسعاه من نقده هو "فرض قراءة تاريخية للنص القرآني" (قراءة، ص 213)، ومرة ثالثة يقول: عملي يقوم على إخضاع القرآن لمحك النقد التاريخي المقارن (الثقافة الجديدة عدد 26_27، 1983). ومرة رابعة يترك استخلاص الجواب لقارئه قائلاً: أجبت على هذا السؤال المرعب ولن أكرر هنا ما قلته في أمكنة أخرى (إسلام، ص 23).
وفيما يخصني، فإني لا أسأل أركون الجواب. لأن موقفه لا يؤخذ دوماً من أجوبته. وإنما يستشف من خطابه بالذات. والخطاب الأركوني هو خطاب نقدي في توجهه، حفري تفكيكي في بنيته ونسيجه. ولهذا فإن أركون إذ يتكلم على القرآن ويستعيده، إنما يُخضعه لمطرقته النقدية ويقرأه بعين حفرية تفكيكية، محاولاً بذلك استنطاقه عن مشروطيته وحدثيته، كاشفاً عن تاريخيته الأكثر مادية ودنيوية والأكثر يومية وعادية، بل الأكثر شيوعاً. (قراءة، ص91؛ وأيضاً إسلام، ص91).
أعرف أن هناك آليات دفاعية يلجأ إليها أركون بوعي أو بغير وعي، لكي يقطع الطريق على منتقديه أو بالأحرى على المتربصين بنقده من أصوليين وإسلاميين. من هذا القبيل موافقته أدونيس على وصفه لمشروعه بأنه يقوم على "تحرير النص الأول من النص الثاني، لأن هذا الأخير حجب النص الأول" (مواقف، عدد 54). والمقصود بالنص الأول القرآن، وبالنص الثاني ما وُضِع له من شروحات وتفاسير، وهذه آلية دفاعية قد تستجيب لحاجة ايمانية تقديسية عن أركون، ولكنها تتعارض مع هوى المعرفة الذي يسكنه بل يحركه. انها حيلة لا تنطلي على من يتفحص اتجاهات الخطاب عند أركون الذي يستدرك، في الحديث نفسه بينه وبين أدونيس، بالقول إن نقده للنص الثاني لا يعني استبعاد النص الأول من دائرة البحث والنقد. لأن أركون لا يريد أن يكون مجرد "إصلاحي" بين دعاة الاصلاح. بمعنى أن هدفه من قراءة القرآن ليس تعويم المعنى ولا إعادة الاعتبار إلى الظاهرة المعجزة" التي يمثلها الوحي القرآني، وإنما هدفه تفكيك المعنى بالبحث عن أصوله وتبيان كيفية إنتاجه. ولهذا لا أرى وجهاً للمقارنة بين أركون ولوثر على ما يفعل هاشم صالح. إن قراءة المشروع الأركوني قراءة إصلاحية "لوثرية" هو خداع للذات ووقوع في الأفخاخ التي ينصبها ناقد النص القرآني لقرآئه.
التقديس حجاب
لا أريد أن أضع أركون في خانة الماديين والواقعيين والعلمويين الذين يشككون بمصداقية الخطاب النبوي أو ينقضون ظاهرة الوحي الإلهي أمثال صادق جلال العظم ونصر حامد أبو زيد. لا ريب أن أركون هو دهري دنيوي في مفهومه للوحي وفي منهج تحليله للخطاب النبوي. ولا حاجة إلى تكرار القول في هذا الخصوص. ومع ذلك فإن أركون يختلف تمام الاختلاف عن مواقف الذين يتعاملون مع النص القرآني بطريقة تبسيطية أحادية تقوم على نفيه واستبعاده. فإن هؤلاء يرشقون القلعة القرآنية الحصينة بحجارة ترتد عليهم. أما أركون فإنه يحاول، متسلحاً بمنهجيته ذات القدرة الهائلة على الحفر والسَّبر، أن يلج إلى القلعة لكي يقوم بتلغيمها أو تفكيكها من الداخل. فهو يملك مفاتيح معرفية تتيح له أن يعرف خارطة القلعة وأن يكشف عن مخابئها السرية. ولهذا فإن محاولته هي الأكثر خطورة وأهمية، أعني بذلك أنها الأكثر فاعلية ومردودية على الصعيد المعرفي، إذ هي تسهم في تجديد المعرفة بالاسلام ونصوصه، وقد تسهم في تغيير شروط المعرفة ذاتها.
ولهذا فاني أخالف أركون أو بالأصح أخلص لما لا يخلص إليه أو لما لا يريد الخلوص إليه، وهو أن نزع هالة القداسة عن النص القرآني لا يقلّل من أهمية هذا النص، بل بالعكس يعيد للحدث القرآني اعتباره. إذ التقديس حجاب يحجب كينونة الشيء والقرآن هو نص "محجوب بتقديسه ذاته"، تماماً كما يقرأ أدونيس ظاهرة التقديس في كتابه: النص القرآني وآفاق الكتابة (ص40). هكذا للمسألة وجهها الآخر. أعني أن تعرية آليات التقديس والتعالي ليست انتقاصاً من النص القرآني، بل هي بالعكس استعادة للمنسي واستقصاء للكائن.
هذا ما يرمي إليه النقد التفكيكي. إنه يزيل الركام عن الحدث ويكشف الغطاء عن المحجوب. ولهذا فهو يشكل اعترافاً بكينونة النص. ومعنى الاعتراف هنا أن النص القرآني لا يُحيل إلى حقيقة متعالية أو إلى واقع تاريخي معين بقدر ما هو خطاب يخلق حقيقته ويولد أثره ومفاعيله. لا شك أن أركون يتحدث عن الأبعاد الأنطولوجية للنص القرآني، ذلك أن هذا النص ينطوي على قراءة للوجود ويقدّم شكلاً من أشكال التعامل مع الحقيقة. وهذا جانب لم يتطرق إليه أحد من قبل على النحو المبتكر الذي فعله أركون. ولكن الخطاب الانطولوجي عامةً يحجب ذاته ويتناسى حقيقته، أعني يتناسى وقائعيته الخطابية. من هنا ضرورة تشكيل انطولوجيا تختص بالنصوص ننتقل معها من نص الحقيقة إلى حقيقة، النص، ومن خطاب الكينونة إلى كينونة الخطاب. فالنص، أي نص، هو خطاب يفرض وجوده على قرائه، بصرف النظر عن الوقائع التاريخية التي يحيل إليها، إذ هو يحثهم دوماً على قراءته واستكشافه لفهم ما هو راهن أو استشراف ما هو كائن. وهذه الامكانية هي التي تسبغ على النص أهميته وجدارته، طبعاً هذا هو شأن أمهات النصوص وجلائل الأعمال والآثار، إنها تشغلنا بقدر ما تحملنا على الاشتغال عليها واستنطاقها عن أبعادها ومراميها.
هذا هو الجواب الذي يخشى أركون من الوصول إليه: إن تفكيك النص القرآني معناه اعتراف بكينونته كتشكيل خطابي يملك وقائعيته ويولد حقيقته. وحده مثل هذا الجواب يجعلنا نتجاوز الثنائيات القديمة في تقييم النصوص النبوية، أعني ثنائيات الإيمان والهرطقة، أو الصدق والكذب، أو القدسي والدنيوي، أو المعقول والأسطوري... من هنا مأزق أركون في قراءته للقرآن: إنه يريد القيام بتعرية أركيولوجية لزمن الوحي والتأسيس للكشف عما مارسه من حجب وتمويه على الأشياء والأحداث والأفكار والأشخاص. ومع ذلك فهو لا يريد النيل من سلطة المقدس. طبعاً إن تمزيق الحجب يصدم ويزلزل، يجرح ويفاجىء، ولا مهرب من ذلك إذا أردنا إنتاج معرفة جديدة حيّة. فكيف إذا كان شعارنا هو تنشيط الفكر النقدي الحر بتسليط الضوء على هذه القارة التي ما تزال مجهولة، أعني بها المنطقة الخارجة على التفكير بسبب هالات التقديس وأردية التعالي. هل نخشى الاعتراف بدهريتنا؟ لا أريد الاستنجاد بالحديث النبوي القائل: لا تسبّوا الدهر فإن الله هو الدهر، ولكني أقول: كلنا دهريون، مع فارق أن بعضنا يجحد دهريته ويتستر على دنيويته باسم المتعالي وتحت راية المقدس.


المصدر : الممنوع والممتنع