وقوله -عليه الصلاة والسلام- : ( لا تغضب ) هذا -أيضا- له مرتبتان :-
المرتبة الأولى : لا تغضب إذا أتت دواعي الغضب فاكظم غضبك ، واكظم غيظك ، وهذا جاءت فيه آيات ، ومنها قول الله -جل وعلا- : ( الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ {134} آل عمران ، وكظم الغيظ من صفات عباد الله المؤمنين المحسنين ، الذين يكظمون الغضب عند ثورته .
وجاء -أيضا- في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من كظم غيظا ، وهو يقدر على إنفاذه ، دعي يوم القيامة على رءوس الخلائق إلى الجنة ) أو كما قال -عليه الصلاة والسلام- والحديث في السنن ، وهو حديث صحيح .
فكظم الغيظ ومَسْك الغضب هذا هو الحالة الأولى التي دل عليها قوله : ( لا تغضب ) وكظم الغيظ ، وإمساك الغضب هذا من الصفات المحمودة ، ويأتي تفصيل الكلام على كونه من الصفات المحمودة .
الثاني -التفسير الثاني-: لا تَسْعَ فيما يغضبك ؛ لأنه من المتقرر أن الوسائل تؤدي إلى الغايات ، فإذا كنت تعلم أن هذا الشيء يؤدي بك إلى غاية تغضبك فلا تَسْعَ إلى وسائلها ، ولهذا كان كثير من السلف يمدحون التغافل ، وقال رجل للإمام أحمد : كان وكيع يقول ، أو أحد الأئمة غير وكيع -النسيان مني-: الخير تسعة أعشاره في التغافل .
وقال الإمام أحمد : أخطأ ، الخير كله في التغافل يعني: أن إحقاق الأمور إلى آخرها في كل شيء هذا غير ممكن ؛ لأن النفوس مطبوعة على التساهل ومطبوعة على التوسع ، وعندها ما عندها ، فتغافل المرء عما يحدث له الغضب ، ويحدث له ما لا يرضيه ، تغافله عن ذلك من أبواب الخير العظيمة ، بل قال : الخير كله في التغافل ، التغافل عن الإساءة ، التغافل عن الكلام فيما لا يحمد .
التغافل -أيضا- عن بعض التصرفات بعدم متابعتها ولحوقها إلى آخرها إلى آخر ذلك فالتغافل أمر محمود وهذا مبني أيضا على النهي عن التحسس والتجسس ، قوله أيضا هنا : ( لا تغضب ) بمعنى: لا تدخل في وسائل الغضب في أنواعها ، فكل وسيلة من الوسائل التي تؤدي إلى الغضب فمنهي عن اتباعها ، فإذا رأيت الشيء ، وأنت تعلم من نفسك أنه يؤدي بك إلى الغضب ، فالحديث دل على أن تنتهي عنه من أوله ، ولا تتبع نفسك هذا الشيء ، وتتمارى فيه أو تتمادى فيه حتى يغضبك ثم بعد ذلك قد لا تستطيع أن تكظم الغضب أو الغيظ .
إذا تقرر هذا ، وأن الحديث له معنيان ، وأن النهي عن الغضب يشمل النهي عن إنفاذ الغضب بكتمان الغضب ، ويشمل -أيضا- النهي عن غشيان وسائل الغضب ، إذا تقرر هذا فإن الغضب من الصفات المذمومة التي هي من وسائل إبليس ، فالغضب دائما يكون معه الشر .
فكثير من حوادث القتل والاعتداءات كانت من نتائج الغضب ، كثير من الكلام السيئ الذي ربما لو أراد الإنسان أن يرجع فيه لرجع ، لكنه أنفذه من جراء الغضب .
كثير من العلاقات السيئة بين الرجل وبين أهله ، وحوادث الطلاق ، وأشباه ذلك كان منشأها الغضب ، وكثير من قطع صلة الرحم ، وتقطيع الأواصر التي أمر الله -جل وعلا- بوصلها كان سببَ القطيعةِ الغضبُ ، ومجاراة الكلام ، وتبادل الكلام والغضب إلى أن يخرجه عما يعقل ، ثم بعد ذلك "لات ساعة إصلاح" .
وهكذا في أشياء كثيرة ، فالغضب مذموم ، وهو من الشيطان ، ومن وسائل الشيطان لإحداث الفرقة بين المؤمنين ، وإشاعة الفحشاء والمحرمات فيما بينهم .
.. يتبع ..