فالمتقي هو : من جعل بينه وبين ما يكره وقاية ، بينه وبين سخط الله وعذابه وأليم عقابه وقاية ، وهي في القرآن أي: في الأمر بتقوى الله على ثلاث مراتب :-
الأولى : تقوى أمر بها الناس جميعا ، ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً {1}سورة النساء ، في آيات ، وهذا معناه أن يسلموا أن يحققوا التوحيد ، ويتبرءوا من الشرك ، فمن أتى بالتوحيد ، وسلم من الشرك فقد اتقى الله -جل وعلا- أعظم أنواع التقوى .
ولهذا قال جماعة من المفسرين في قوله -جل وعلا- : ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ {27}سورة المائدة ، يعني: من الموحدين .
والمرتبة الثانية ، أو النوع الثاني : تقوى أمر بها المؤمنين فقال -جل وعلا- ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {278}سورة البقرة ، وهذه التقوى للمؤمن تكون بعد تحصيله -كما هو معلوم- بعد تحصيله التوحيد ، وترك الشرك فيكون التقوى في حقه أن يعمل بطاعة الله على نور من الله ، وأن يترك معصية الله على نور من الله -جل وعلا- ، وأن يترك المحرمات ، ويمتثل الواجبات ، وأن يبتعد عما فيه سخط الله -جل وعلا- ، والتعرض لعذابه .
وهذه التقوى للمؤمنين -أيضا- على مراتب أعلاها أن يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس ، حتى قال بعض السلف : ما سُموا متقين إلا لتركهم ما لا بأس به حذرا مما به بأس ، وهذا في أعلى مراتب التقوى ؛ لأنه اتقى ما لا ينفعه في الآخرة ، وهذه مرتبة أهل الزهد والورع والصلاح .
والنوع الثالث من التقوى -في القرآن- : تقوى أُمر بها من هو آت بها ، وذلك قول الله -جل وعلا- : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً {1}سورة الأحزاب ، ومن أُمر بشيء هو محصله ، فإن معنى الأمر أن يثبت عليه ، وعلى دواعيه ، فمعنى قول الله -جل وعلا- : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً {1}يعني: : اثْبُتْ على مقتضيات التقوى ، وذلك قوله -جل وعلا- : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً {136} الآية في سورة النساء ، فناداهم باسم الإيمان ، ثم أمرهم بالإيمان ، وهذا معناه : أن يثبتوا على كمال الإيمان ، أو أن يكملوا مقامات الإيمان بحسب الحال؛ لأن لفظ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ {104}سورة البقرة ، الإيمان له درجات .
فقول النبي صلى الله عليه وسلم هنا : ( اتق الله حيثما كنت ) هذا خطاب موجه لأهل الإيمان ، يعني: لأهل النوع الثاني ، فالمقصود منه أن يأتي بتقوى الله -جل وعلا- في أي مكان ، أو زمان كان ، فهو أن يعمل بالطاعات ، وأن يجتنب المحرمات ، كما قال طلق بن حبيب -رحمه الله- : "تقوى الله: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله ، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله".
.. يتبع ..