30 يوليو.. يوماً للقدس
بقلم: د. أحمد يوسف القرعي
صحيفة الأهرام 29/7/2004
عيوننا إليها ترحل كل يوم، رغم الجدار العنصري العالي الذي عزلها، ورغم المستعمرات التي أحاطت بها وسلختها من الرحم الفلسطيني الأم. عيوننا لن تغفل عنها وذاكرتنا لن تفقد اسمها وتاريخها وحضارتها وقدسيتها، وهممنا لن تفتر لاستردادها، كما استردتها أجيال الأمة العربية والإسلامية مرات عديدة من أيدي جحافل الغزاة والمحتلين عبر العصور القديمة والوسيطة، فالاحتلال الإسرائيلي للقدس هو الاحتلال الحادي والأربعون ومصيره مصير كل صنوف الاحتلال السابقة ويشهد التاريخ أن المدينة كانت تعود إلى أصولها العربية ووضعها الطبيعي بعد طرد ورحيل كل المحتلين. وهذا هو الدرس التاريخي الذي يجب أن يتعلمه ويدركه شارون.
عيوننا إليها ترحل كل يوم وتنشط ذاكرتنا لترصد أياماً صعبة وعصيبة مرت على المدينة تعرضت فيها لعمليات الاحتلال وتكريسه أو مخطط التهويد وادعاءاته ومزاعمه، وفي هذا السياق تأتي ذكرى صدور أول قانون للكنيست الإسرائيلي في 30 يوليو 1980 الذي يعتبر القدس الغربية والشرقية عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل.
وكان هذا القانون الصادر في 30 يوليو 1980 هو بداية مسلسل قوانين وقرارات للكنيست الإسرائيلي لاتزال تصدر حتى الآن وتشكل ملفاً متضخماً وتتمحور حول تهويد المدينة المقدسة. والقانون الأساسي للقدس لعام 1980 تقدمت به آنذاك النائبة (جيئولا كوهين) التي كانت عضواً في المنظمة الإرهابية ليجي وعصابة شتيرن قبل قيام "إسرائيل"، كما كانت عضواً في حركة أرض "إسرائيل" الكاملة التي تشكلت عقب حرب يونيو 1967 وركزت نشاطها منذ ذلك الوقت على المطالبة بفرض القانون الإسرائيلي علي كافة المناطق التي احتلتها "إسرائيل" آنذاك وضمها إلى "إسرائيل" نهائياً وأسست كوهين بعد انسحابها من الليكود حزباً يمينياً متطرفاً مع عدد من زملائها السابقين أطلقوا عليه اسم البعث (هتحياه).
وكان الهدف من مشروع قانون القدس كما قدمته ج.كوهين إحراج الحكومة الإسرائيلية القائمة والحكومات التالية وتكبيل أيديها بمنعها من التقدم باقتراحات أو التوصل إلي اتفاقات ضمن أية تسوية محتملة يمكن أن تمس وضع القدس والسيادة الإسرائيلية عليها كما حدث بالنسبة إلى سيناء مثلا دون العودة إلى الكنيست والحصول على موافقته المسبقة.
ونجحت كوهين ومؤيدوها في مساعيهم تلك عندما حملوا الكنيست على إقرار القانون بأكثرية 69 صوتاً من أصل 120 ومعارضة 15 وامتناع ثلاثة عن التصويت وتغيب الباقين أو انسحابهم قبل التصويت تلافياً للاحراج والاضطرار للتصويت إلى جانب القانون، وكان من بين هؤلاء رابين وبيريز أبرز زعماء حزب العمل المعارض آنذاك.
ولقد تعرض هذا القانون وقت صدوره لانتقادات شديدة داخل "إسرائيل" بوصفه تشريعاً استعراضياً إعلامياً لإجراءات ضم القدس التي اتخذت قبل ذلك بثلاث عشرة سنة (أي فيما بين 1967 ـ1980) وأن مثل هذا القانون قابل للتعديل أو الشطب.
ومع إجادة المفاوض الفلسطيني في استخدام ورقة القدس فور بدء مفاوضات أوسلو أحس الإسرائيليون بضرورة رتق القانون الأساسي للقدس بعدد من القوانين المكملة التي تحول دون الاختراق الفلسطيني لقانون 1980 ومن هنا صدرت تباعاً ثلاثة قوانين في أكتوبر 1993، مايو وديسمبر 1994، يعني هذا أن أول قانون منها صدر بعد أربعة أسابيع فقط من موافقة الكنيست على اتفاق أوسلو في 23 سبتمبر 93 حيث سارع الكنيست في الشهر التالي (21 أكتوبر 1993) بإقرار قانون يلزم الحكومة بالحصول على تأييد 80 عضواً من أصل 120 عضواً هم عدد أعضاء الكنيست لإجراء أي تعديل على حدود مدينة القدس أو مكانها ومع احتدام المواجهة في المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية لم يجد الكنيست مفراً في 10 مايو 1994 من اقرار قانون آخر يزعم فيه بأن مدينة القدس ستبقى موحدة إلى الأبد تحت سيادة "إسرائيل". وما هي إلا شهور قليلة حتى أصدر الكنيست في ديسمبر 1994 القانون الثالث بحظر نشاط منظمة التحرير الفلسطينية في القدس الشرقية. والقانون يعني أساساً بـ بيت الشرق الذي يعد وزارة الخارجية الفلسطينية.
وما هي إلا سنوات قليلة وعاد الكنيست مرة أخرى في 26 يناير 1999 ليستكمل مسلسل قوانين وقرارات القدس ليعرقل أي إجراء لإعادة المدينة المقدسة إلى الفلسطينيين. واشترط القرار موافقة 61 نائباً من أصل 120 (إعضاء الكنيست) لإعادة أراض تحت السيطرة الإسرائيلية مثل القدس الشرقية والجولان على أن يعرض الأمر بعذ ذلك على استفتاء شعبي بهدف تكريس صعوبة إعادة مثل تلك الأراضي إلى الفلسطينيين أو السوريين.
ومع تأزم المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية مع مفاوضات كامب ديفيد -2 عام 2000 صوت الكنيست في27 نوفمبر 2000 بالموافقة وبشكل نهائي على مشروع قانون تقدمت به المعارضة اليمينية بشأن القدس المحتلة وينص على ضرورة وجود أغلبية مطلقة في الكنيست لإجراء أي تعديل للحدود البلدية الحالية لمدينة القدس. ومنذ عام مضى استكمل الكنيست الإسرائيلي مسلسل قوانين وقرارات تهويد المدينة المقدسة بمصادقته في 15 يوليو 2003 على مشروع قرار قدمته كتلة الليكود يقضي بأن أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة ليست محتلة من الناحية التاريخية ولا حسب القانون الدولي ولا وفقاً للاتفاقيات التي وقعت عليها "إسرائيل" والقرار يعني أساساً الاصرار في كل المفاوضات المستقبلية علي التمسك بالخطوط الحمراء وفي مقدمتها السيادة المطلقة على القدس كلها.
* * *
وأخيراً تخطئ حكومة "إسرائيل" أيا كان رئيس وزرائها وأياً كانت نوعية أحزابها وقواها السياسية لو اعتقدت أن الفلسطينيين سوف ينخدعون بأي قانون أو قرار للكنيست صدر أو سوف يصدر بشأن تهويد القدس، فالقوانين والقرارات اللاشرعية مجرد قصاصات من الورق لاقيمة لها إيماناً بأن قضية القدس قضية محورية لن يقرر مصيرها كنيست أية حكومة إسرائيلية.
__________________
هذا هو رأيي الشخصي الخاص المتواضع، وسبحان من تفرّد بالكمال
|