الحديث العشرون
إذا لم تستح فاصنع ما شئت
قال المصنف -رحمه الله- تعالى وعن أبي مسعود عقبة بن عامر الأنصاري البدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت ) رواه البخاري.
هذا الحديث فيه الكلام على شعبة من شعب الإيمان ألا وهي الحياء ، فقد أُسند الكلام هنا إلى ما بقي للناس من النبوة الأولى فقد قال -عليه الصلاة والسلام- هنا : ( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت ) .
فقوله -عليه الصلاة والسلام- هنا : ( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى ) يقتضي أن هناك كلاما أدركه الناس من كلام الأنبياء ، ومعنى الإدراك : أنه فشا في الناس ، وتناقلوه عن الأنبياء .
وقوله : ( مما أدرك الناس ) من هنا تبعيضيه فيكون هذا القول وهو : ( إذا لم تستح فاصنع ما شئت ) يكون بعض ما أُدرك من كلام النبوة الأولى ، فقال -عليه الصلاة والسلام- : ( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى ) والنبوة الأولى المقصود بها : النبوات المتقدمة ، يعني: أوائل الرسل والأنبياء كنوح -عليه السلام- ، وإبراهيم -عليه السلام- وهكذا .
فإن نوحا -عليه السلام- له كلام فشا في أتباعه فيما بعده ، وإبراهيم -عليه السلام- كذلك في كلام له ، وكذلك مما أعطاه الله -جل وعلا- وأوحاه إليه فيما في صحفه .
فالنبوة الأولى المقصود بها : النبوات السابقة البعيدة عن إرث الناس لذلك الكلام ، فيكون مقتضى النبوة الأولى أن هناك نبوات متأخرة ، وهذا صحيح ؛ لأنه إذا أُطلق النبوات الأولى فإنما يُعنَى به الرسل والأنبياء المتقدمون ، أما موسى -عليه السلام- ، وعيسى -عليه السلام- ، وهكذا أنبياء بني إسرائيل، داود وغيره هؤلاء من النبوات المتأخرة ، يعني: من الأنبياء والرسل المتأخرين.
وقوله -عليه الصلاة والسلام- : ( مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى ) هذا يعني: أن هذا الكلام كلام أنبياء ، وله تشريعه ، وله فائدته العظيمة ، فهذا فيه لفت النظر إلى الاهتمام بهذا الكلام .
قال : ( إذا لم تستح فاصنع ما شئت ) تستحي يعني: الحاء هنا؛ لأن الفعل استحى يستحي فهنا تستحي فجزم لم أثَّرَ في الفعل بحذف الياء؛ لأن هناك يائين ، وتظهر هذه في قول الله -جل وعلا- : إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا .... {26}سورة البقرة ، فثم ياءان ، هنا لما أتت لم حذفت الياء التي هي من الفعل ، وبقيت الياء الأخرى الداخلة ، وإذا قيل لم تستحِ على كسر الحاء إشارة إلى حذف الياء فلا بأس في نظائرها المعروفة في النحو .
قوله هنا : ( لم تستح فاصنع ما شئت ) هذا فيه ذكر الحياء ، والحياء كما جاء في الحديث الآخر شعبة من الإيمان ، وهو ملكة باطنة ، والحياء هذا يأتي تارة بالجبلة والخلق المطبوع عليه الإنسان ، وتارة يأتي بالاكتساب ، أما بالجبلة والطبع فهذا يكون بعض الناس حييا .
كما جاء في الصحيح ( أن رجلا من الأنصار كان يعظ أخاه في الحياء -يعني: يقول له : لماذا تستحي ؟ لماذا أنت كذا وكذا فقال له النبي -عليه الصلاة والسلام- : دعه فإن الحياء لا يأتي إلا بخير ) فالحياء شعبة باطنة ، ويكون جبليا طبعيا ، ويكون مكتسبا ، والمكتسب مأمور به ، وهو أن يكون مستحيا من الله -جل وعلا- وأن يكون مبتعدا عن المحرمات ، وما يشينه عند ربه -جل وعلا- ، ممتثلا للأوامر مقبلا عليها؛ لأن الله -جل وعلا- يحب ذلك ويرضاه ، فالحياء المكتسب ما يكون في القلب من الخُلق الذي يجعله آنفا أن يغشى الحرام ، أو أن يترك الواجب ، وهذا يكون بملازمة الإيمان ، وبالعلم والعمل الصالح حتى يكون ذلك ملكة .
.. يتبع ..