عرض مشاركة مفردة
  #4  
قديم 09-02-2005, 02:34 AM
فارس ترجل فارس ترجل غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Jun 2004
المشاركات: 563
إفتراضي

كتبه:عبد الوهاب الافندي

بقراره تعيين كوندوليزا رايس وزيرة لخارجيته ازال الرئيس الامريكي جورج دبليو بوش اي غموض وضباب كانا قد احاطا بتوجيهات سياسته الخارجية في العالم العربي، وخاصة في ما يتعلق بجديته في المهمة التبشيرية لنشر الديمقراطية قسرا. وزاد بوش التأكيد علي توجهه هذا بتركيزه عليه في خطبه الاخيرة، وآخرها خطابه عن حالة الاتحاد، حيث اكد مرارا ان فترته الرئاسية الثانية ستركز علي محاربة الطغيان ونشر الحرية في كل انحاء
العالم.

وبهذا يكون بوش قد حسم الصراع لصالح صقور المحافظين الجدد وأجندتهم الثورية تجاه العالم العربي، ضد الواقعية التقليدية التي ظلت تفضل الاستقرار علي التغيير، ديمقراطيا او غيره. وتعتبر رايس احد رموز هذا التيار المتشدد. ويتميز هذا التيار بتمسكه الايديولوجي بمقولة ان نشر الديمقراطية هو الترياق المضاد للارهاب، وبمقارنته الوضع في العالم العربي باوضاع اوروبا الشرقية سابقا. وبموجب هذه المقارنة يؤكد هذا التيار ان المهمة الاساسية للسياسة الخارجية هي اطلاق حرب الافكار ضد الارهاب، علي غرار حرب الافكار التي قادتها الولايات المتحدة ضد الشيوعية وانتهت بانهيار الاتحاد السوفييتي، ونشر قيم الحرية والديمقراطية كترياق مضاد للتطرف.


وكان دونالد رامسفيلد اول من دعا الي شن هذه الحرب في مقابلة مشهورة مع صحيفة واشنطن تايمز في تشرين الاول (اكتوبر) عام 2002، حين اكد بان الحرب الاساسية ضد الارهاب ليست هي المعركة العسكرية، وانما هي حرب الافكار (وهو يقصد الحرب الدعائية). ودعا رامسفيلد الي انشاء جهاز متخصص يتولي شن هذه الحرب. وقد تبعت ذلك توصيات لتقريرين حول نفس الموضوع تبنيا الدعوة الي التركيز علي حرب الافكار هذه تقرير جرجيان عام 2003، وتقرير لجنة علوم الدفاع عام 2004):

نفس الموضوع عادت اليه رايس نفسها في خطاب ألقته امام المعهد الامريكي للسلام في آب (اغسطس) عام 2003، حيث قالت ان المهمة الاساسية للولايات المتحدة في المرحلة القادمة تتمثل في تكرار النجاح في الحرب الباردة عبر شن حرب الافكار ونشر فكر الحياة مقابل فكر الموت، والترويج للقيم الامريكية عالميا والدفاع عنها.

وفي تشرين الثاني (نوفمبر) 2003 دخل الرئيس بوش نفسه المعترك في خطاب ادلي فيه بأول اعتراف امريكي علني بأن الولايات المتحدة ظلت تدعم الدكتاتوريات في الشرق الاوسط لاكثر من ستين عاما، وان تلك السياسة لم تجلب لامريكا الامن او تخدم مصالحها. واعلن بوش تخليه عن تلك السياسة وتبنيه لسياسة جديدة قوامها نشر الديمقراطية.

الترجمة العملية لتلك السياسة جاءت في مشروع الشرق الاوسط الكبير الذي تم تسريبه لصحيفة الحياة في شباط (فبراير) عام 2004 من قبل اطراف دولية قصدت من ذلك التسريب افشال المشروع ـ وقد تحقق هذا جزئيا بعد المعارضة العربية والاوروبية الواسعة للمشروع، حيث تبنت قمة الثماني في حزيران (يونيو) 2004 في اجتماعها في ولاية جورجيا الامريكية نسخة خجولة من ذلك المشروع، وقد اعتبر كثير من المعلقين ان تبني ذلك المشروع بتلك الصيغة كان نصرا اجوف للرئيس الامريكي بوش ومشروعه، حيث اضطر الي تقديم تنازلات كبيرة لشركائه في الدول الصناعية وحلفائه العرب، مما افرغ المشروع من محتواه وجعله امتدادا للسياسات القديمة التي تجعل الديمقراطية هدفا طويل الامد، وتتغاضي عن مطالبها علي المدي القصير.

من هنا يبدو ان خطاب بوش الاخير وتعيين رايس في الخارجية محاولة جديدة من الرئيس الامريكي لاعادة الاعتبار لمشروعه. وهذا ما أثار حفيظة المعسكر العراقي الذي عبر عن معارضته في مقالة لريتشارد هاس نشرتها واشنطن بوست في كانون الثاني (يناير) الماضي حذر فيها من ان سياسة بوش التبشيرية ستضر بالمصالح الامريكية، مرددا ان الضغط علي الانظمة القائمة في السعودية ومصر وغيرها قد يأتي بأنظمة اسوأ. وذكر هاس الذي كان الرجل الثالث في الخارجية في عهد كولن باول بنموذج ايران، واشار الي الصعوبات التي تواجهها سياسة امريكا في العراق.

وبالمقابل فإن المتشددين يرون في ما حدث في العراق، خاصة بعد الانتخابات الاخيرة وما لقيته من اقبال كبير، اضافة الي انتخابات افغانستان وفلسطين، دعما لموقفهم ودافعا للاستمرار في سياسة تصدير الديمقراطية بالسلاح ان لزم الامر، ويرفض هؤلاء حجة العراقيين والحلفاء الاوروبيين بان العالم العربي غير مستعد للديمقراطية ويصفون هذه الحجة بانها عنصرية ويرون ان اسقاط الدكتاتوريات كما حدث في العراق وافغانستان كفيل بان يجعل الشعوب تقبل علي الخيار الديمقراطي.

ويقبل المتشددون الحجة القائلة بان الديمقراطية قد لا توافق مصلحة الغرب علي المدي القريب، ومثال ذلك تركيا التي رفض برلمانها السماح للقوات الامريكية باستخدام الاراضي التركية في غزو العراق. ولكن هؤلاء يقولون ان قيام الديمقراطيات يخدم مصالح امريكا والغرب علي المدي البعيد، لان الديمقراطيات لا تشن الحرب علي جيرانها ولا تفرخ الارهابيين. هذه من النقاط القليلة التي يتفق فيها خصوم المحافظين الجدد معهم، احد المعلقين الذي انتقد بشدة ما سماه سياسة ارسال وثيقة حقوق الانسان الي افغانستان بالفدرال اكسبرس اولا في ان تصنع الديمقراطية جذورها في ذلك البلد، علق مع ذلك بالقول من الذي يقبل ان يقايض فرنسا المشاكسة بعدائها المتأصل لامريكا بالسعودية المهادنة التي تبالغ في اظهار ولائها لامريكا؟ والاجابة الضمنية ان فرنسا افضل كحليف ضد الارهاب.

من المبكر مع ذلك الجزم بأن امريكا قد عبرت الروبيكون بحسب التعبير الانكليزي في قرارها شن الحرب علي الدكتاتوريات العربية، واتخذت قرارا لا رجعة فيه بهذا الخصوص، وذلك علي الاقل لان الموضوع لا يزال محور جدل محتدم داخل اروقة صنع القرار في واشنطن، ولكن من الواضح ان جورج بوش شخصيا يميل الي معسكر المتشددين، ويعتبر قراره بترفيع رايس الي الخارجية خطوة في طريق تطبيق رؤيته الهجومية، خاصة وان رايس معروفة بحماسها وولائها للرئيس، وطواعيتها لقراراته.

ويبدو ان السياسة الجديدة ستتحرك علي محورين بهدف ارضاء الواقعيين دون المساس بجوهر برنامج بوش المتشدد. اما المحور الاول فهو اتباع سياسة هجومية ضد دول الضد والضغط عليها بكل الوسائل الممكنة لزعزعة انظمتها واسقاطها ودعم خصومها. اما المحور الثاني فهو مطالبة دول المع بخطوات ملموسة في اتجاه الانفتاح الديمقراطي، والتداول معها بين الضغط الناعم ورفع العصا. وهناك تداخل وتعاضد بين المحورين، حيث يتوقع ان يكون في اسقاط وزعزعة انظمة الضد كما حدث في افغانستان والعراق (وفلسطين) وكما ينتظر ان يحدث في السودان وايران وسورية (وليبيا) عبرة لمن يعتبر، وحافزا لكي يسارع الاخرون للاصلاح خوفا وفزعا.

معالم هذه الخطة بدأت تتضح منذ خطاب حالة الاتحاد الذي ركز فيه بوش علي نقد سورية وايران بعنف. نفس النغمة رددتها رايس باخلاص وهمة في جولتها الاخيرة في اوروبا والشرق الاوسط، حيث يلاحظ تراجع اللهجة الامريكية المعهودة في مهاجمة ايران وسورية بتهم دعم الارهاب وعدم التعاون في العراق وتطوير اسلحة الدمار الشامل. التركيز اصبح الان علي سجل هذه الدول في الديمقراطية وحقوق الانسان، مما يعني اننا سنشهد في الفترة المقبلة لهجة جديدة تربط بين الحملة علي ايران وسورية ومشروع الشرق الاوسط الكبير لنشر الديمقراطية في المنطقة.

مثل هذا التوجه سيثير بالطبع اسوأ الظنون في نوايا الادارة الامريكية واستخدامها الشعارات الديمقراطية لامور لا علاقة لها بالمبادئ السامية التي تدعي بها وصلا.

وهذا امر مفروغ منه من جهة لان المحافظين الجدد ليسوا مهتمين بالحدب علي مصالح العرب، ولم يدعوا ذلك. وهم لم يدعوا اكثر من الحرص علي مصالح امريكا واسرائيل، وحجتهم ان الديمقراطية في العالم العربي تخدم هذه المصالح.

هذا بالطبع يعتمد كثيرا علي التعريف الذي يعتمده هؤلاء للديمقراطية، وهو تعريف يجتزئ من الديمقراطية الليبرالية شقها الليبرالي. وقد عبر عن هذا مفهوم احد اقطاب هذا التيار، فريد زكريا رئيس تحرير مجلة النيوزويك في مقالة نشرها في دورية فورين افيرز عام 1997 بعنوان الديمقراطية اللاليبرالية ، حذر فيها من تبني الديمقراطية في العالم العربي ودعا بالمقابل الي نشر الليبرالية اولا.

الادارة الامريكية وعرابوها من المحافظين الجدد رفضوا علنا هذا الطرح، ولكنهم عمليا تبنوه. فما يجري في افغانستان والي درجة اقل في العراق ليس ترويجا للديمقراطية مهما كان تعريفنا لها مطاطا. ذلك ان اي عملية ديمقراطية تستحق الاسم في افغانستان لن تأتي بحلفاء امريكا الحاليين الي الحكم. واذا كانت الولايات المتحدة قد قبلت الي درجة اقل الاحتكام الي الديمقراطية في العراق، فان هذا لم يكن خيار الادارة الاول، وانما اضطرت اليه تحت ضغط المقاومة وعناد آية الله السيستاني الذي اصر علي عقد انتخابات مبكرة، اضافة الي الضغوط الدولية.

ولكن السؤال المحوري هو اين العالم العربي الحاضر ـ الغائب من هذا الجدل الدائر حوله، وهو كالمريض بين يدي الاطباء، ينتظر التشخيص والعلاج المؤسف هو ان الصراخ الذي يتعالي ضد هذا التدخل الخارجي اما هو صادر عن الدكتاتوريات الهرمة وبطاناتها الفاسدة، او من قوي تناصر الديمقراطية ولكنها عاجزة عن احداث تغيير ذي بال. ولكن مثل هذا الاحتجاج لن يدفع المخططات الاجنبية التي ستحدث مهما كان هدفها الاصيل تغييرات جذرية في الواقع العربي. التدهور المستمر في الاوضاع هو الذي شجع هذا التدخل. اما المسكنات والصفقات التي يعقدها البعض لتأخير هذا التغيير عبر اعلان اصلاحات وهمية (انتخابات بلدية هنا، وتعديلات دستورية هناك) او تقديم الخدمات اياها (رعاية مصالح اسرائيل وتبني المشاريع الامريكية) ستزيد المشكلة تعقيدا، وقد تجعل التدخل الاجنبي حتميا عبر زيادة تدهور الاوضاع وزعزعة الاستقرار المحلي والاقليمي والدولي.

العالم العربي اذن مقبل علي تغييرات كبيرة شاء ام ابي. الفرق الوحيد ستكون هل ستكون هذه التغييرات بادارة وتحكم الاطراف ذات المصلحة في المنطقة، ام بيد الآخرين. ويبدو ان التغيير سيكون، كما قال الدكتور سعد الدين ابراهيم في مقالة مشهورة قبل اكثر من عام، بيد عمرو لان الاطراف الفاعلة في المنطقة هي اما رافضة لمطالب الاصلاح، او عاجزة عن الضغط لتحقيقها.