والآيات في هذا كثيرة
فطريقة القرآن أنه يحتج على المشركين بما يقرون به ، وهو توحيد الربوبية على ما ينكرونه وهو توحيد الإلهية .
إذن فقوله : ( آمنت بالله ) قول قائل : آمنت بالله ، أو قوله: ربي الله هو التوحيد الذي يشمل توحيد الربوبية والإلهية والأسماء والصفات؛ لأن أحد هذه الأشياء يلزم منه البقية ، أو أن بعضها يتضمن البعض الأخر .
قوله -عليه الصلاة والسلام- هنا : ( قل آمنت بالله ) كما تقدم معنا أن الإيمان قول وعمل واعتقاد ، فإذا قال : آمنت بالله ، يعني: أنه اعتقد الاعتقاد الصحيح ، وعمل العمل الصحيح الصالح الذي وافق فيه السُنة ، وكان مخلصا فيه لله -جل وعلا- و-أيضا- تكلم وتلفظ بما يحب الله -جل وعلا- ويرضى .
فإذن قوله : ( قل : آمنت بالله ) هذا يشمل الأقوال والأعمال والاعتقادات ، فدخل في هذه الوصية الدين كله ؛ لأنه قال : ( قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك ) وفي لفظ ( لا أسأل عنه أحدا بعدك ) فقال : ( قل : آمنت بالله ) وقوله : ( آمنت بالله ) المقصود به الإيمان الشرعي ؛ لأنه هو الذي يتعدى بالباء ، فالإيمان إذا تعدى بالباء في نصوص الكتاب والسنة فيعنى به الإيمان الشرعي ، الذي هو قول وعمل واعتقاد.
وكما ذكرنا لكم سلفا في شرح حديث جبريل أن الإيمان مشتق من الأمن ، وأصله أن من آمن بشيء أمن الغائلة ، يعني: من صدق به تصديقا جازما ، وعمل بما يقتضيه ذلك التصديق فإنه يأمن غائلة التكذيب؛ لأن تكذيب المخبر له غائلة يعني: له أثر سيئ على المكذِب ، فمن كذَب لم يأمن فالإيمان والأمن متلازمان من حيث الأثر .
والإيمان مشتق من الأمن ، يعني: من جهة الاشتقاق اللغوي البعيد ، والإيمان معناه : التصديق الجازم الذي لا ريب معه ، ولا تردد فيه .
( ثم استقم ) ثم هذه لتراخي الجمل ، وإلا فإن الاستقامة من الإيمان ، فلا يفصل بين الاستقامة والإيمان ، كما تقول : آمن بالله ثم اعمل من الصالحات فهذا تراخي جملة عن جملة ، وتراخي الجمل بـ "ثم" له فائدة من جهة علم المعاني في البلاغة محل الكلام عليها هناك .
وقوله : ( ثم استقم ) فيه الأمر بالاستقامة ، والاستقامة لفظها استفعل ، استقام فيها معنى الطلب ، ولكن هذا ليس بظاهر؛ لأن الفعل استفعل أو هذه الصيغة استفعل تأتي ويراد بها الطلب ، وتأتي ويراد بها لزوم الشيء ، وكثرة الاتصاف به .
فمن الأول ؛ وهو أن استفعل تأتي ويراد بها الطلب كقولك : استسقى فلان يعني: طلب السقيا ، واستغاث طلب الإغاثة ، واستعان طلب الإعانة ، وهكذا في أشباهها .
ومن الثاني ؛ وهو أن استفعل تأتي ويراد منها لزوم الوصف ، وكثرة الاتصاف به ، وعظم الاتصاف به كقوله -جل وعلا- مثلا : ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ {6} في سورة التغابن ، ( وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ ) يعني: غني استغنى ليس معناها طلب الغنى ، ولكنه غني بغنى لازم لذاته ، وكثر وعظم جدا .
.. يتبع ..