2- علم النبي ـ عن طريق الوحي ـ بسلامة قصد وباطن حاطب، لذلك قال :" قد صدقكم "، وهذه ليست لأحدٍ بعد الرسول .. لذلك نجد عمر ـ وليس له إلا ذلك ـ قد تعامل مع حاطب على اعتبار ظاهره .. وما يدل عليه ظاهره من نكوث، وموالاة، وكفر ونفاق .. فقال عباراته الآنفة الذكر!
فإن قيل: الأحكام تبنى على الظاهر .. فعلام هنا قد تعامل النبي مع باطن وقصد حاطب ..؟
أقول:فيما يخص إقامة الحدود .. وإنزال التعزير والعقوبات بالمخالفين لم يكن النبي يفعل ذلك إلا ما يدل عليه ظاهر الحال الذي يستوجب الحد أو العقوبة .. وإن كان يعلم أن بواطن الأمور وخفاياها هي بخلاف هذا الظاهر، كتعامله مع المنافقين على اعتبار ظاهرهم رغم علمه بنفاقهم وكفرهم في الباطن.
قال ابن تيمية في الصارم 356: فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يُقيم الحدود بعلمه، ولا بخبر الواحد، ولا بمجرد الوحي، ولا بالدلائل والشواهد، حتى يثبت الموجب للحد ببينة أو إقرار .. ا- هـ.
أما فيما يتعلق بإقالة العثرات التي كان يقع فيها بعض أصحابه .. فكان يراعي سلامة الباطن والقصد الذي يطلعه عليه الوحي ما وجد إلى ذلك سبيلاً .. لحبه للعذر وإقالة العثرات؛ وبخاصة إن جاءت هذه العثرات من أصحابه الكرام الذين لهم سابقة بلاء وجهاد في سبيل الله ..!
ولأن مراعاة سلامة الباطن في هذا الجانب هو لصالح الإنسان المخطئ بخلاف جانب المؤاخذة والمحاسبة ففيه تقريع وتعذيب للمخالف .. لذا لم يمضه النبي إلا ببينة ظاهرة تستدعي ذلك.
ودليلنا على ذلك موقفه من حاطب .. ونحوه ذلك الرجل من الأنصار الذي قال للنبي ـ كما في صحيح البخاري ـ:" أراك تحابي ابن عمتك ..!!" وذلك لما حكم النبي للزبير بأن يسقي أرضه، ثم يرسل الماء إلى أرض جاره الأنصاري ..!
قلت: قول الأنصاري للنبي " أراك تحابي ابن عمتك !" هو كفر أكبر .. وطعن بحكم النبي .. والذي حمل النبي على إقالة عثرته علمه بسلامة قصده وباطنه، وأن الذي صدر منه هو عبارة عن فلتة وزلة .. وهذه ليست لأحدٍ بعد رسول الله .
قال ابن العربي في الأحكام 5/267: كل من اتهم رسول الله في الحكم فهو كافر، لكن الأنصاري زل زلة فأعرض عنه النبي وأقال عثرته لعلمه بصحة يقينه، وأنها كانت فلتة، وليست لأحدٍ بعد النبي ا – هـ.
وهذا الذي قيل في موقف النبي من هذا الأنصاري يُقال أيضاً في موقفه من حاطب بن أبي بلتعة .. والله تعالى أعلم.
فإن قيل: هل لأحد بعد النبي أن يقيل عثرات ترقى إلى درجة الكفر بناءً على سلامة قصد وباطن أصحابها ..؟
أقول: لا .. لانقطاع الوحي .. وهذا الذي يقصده عمر بن الخطاب من قوله:" إن أناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله ، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم؛ فمن أظهر لنا خيراً أمَّناه وقربناه وليس لنا من سريرته شيء، الله يُحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءاً لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنة ".
لذا نقول: من أظهر لنا الكفر البواح ـ من غير مانعٍ شرعي معتبر ـ أظهرنا له التكفير ولا بد.
وقوله :" كانوا يؤخذون بالوحي " يريد في جانب إقالة العثرات .. وليس في جانب تطبيق الحدود وإنزال العقوبات .. فتنبه لذلك.
3- ومن علامات صدق حاطب أنه صدَق النبي لما سأله .. ولم يواري عليه ما فعل .. مما دل على سلامة باطنه وقصده .. وبراءته من النفاق .. بخلاف المرأة فإنها أنكرت وكذبت لما سئلت عن الكتاب، فقالت:" ما معي من كتاب " فزاد ذلك من جرمها وكفرها ..!
ولو كان حاطب منافقاً لكذَب الحديث .. لأن من خصال المنافق أنه إذا
حدث كذب .. ولكن لما صدق في الحديث .. دل على صدق إيمانه وباطنه وأنه ليس منافقاً .. وكان لذلك أثراً ظاهراً في منجاته وإقالة عثرته، كما في الحديث الصحيح الذي أخرجه الترمذي:" فإن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة ".
ومن حديث كعب بن مالك في قصة تخلفه عن الغزو مع النبي في غزوة تبوك، يقول: يا رسول الله إنما أنجاني الله بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقاً ما بقيت .. والله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد إذ هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله أن لا أكون كذَبْتُه فأهلك كما هلك الذين كذبوا، إن الله قال للذين كذَبوا حين أنزل الوحي شرَّ ما قال لأحدٍ، فقال: سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنمُ جزاءً بما كانوا يكسبون . يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين .
بينما أنزل الله في الثلاثة الذين صدَقوا الحديث ـ منهم كعب من مالك ـ قوله: لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة إلى قوله تعالى وعلى الثلاثة الذين خُلِّفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم . يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين التوبة:117-119.
فتأمل كيف أن الصدق أنجاهم، وأقال عثرتهم .. وكيف أن الكذب أردى أولئك الذين كذبوا الأعذار، وأوبق آخرتهم ..!
وهذا ينبغي أن يكون معتبراً عند الحديث عن حاطب بن أبي بلتعة .. وعن الأسباب التي أقالت عثرته.
4- إن مما أعان على إقالة عثرة حاطب كذلك أنه من أهل بدر .. وبدر حسنة عظيمة تذهب السيئات .. وتقيل العثرات .. وتستدعي تحسين الظن بأهلها .. وتوسيع دائرة التأويل لهم لو عثروا أو زلوا ..!
لذلك نجد أن النبي قد تذكر له حسنة بدر ـ وما أدراك ما حسنة بدر ـ فقال :" إن الله تعالى اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ".
وفي صحيح مسلم:" إني لأرجو أن لا يدخل النار أحد ـ إن شاء الله ـ ممن شهد بدراً والحديبية ".
وحاطب قد جمع بين الخيرين .. فقد شهد بدراً والحديبية معاً ..!
نستفيد من ذلك أن المرء كلما كبرت وكثرت حسناته .. وكانت له سابقة بلاء في الله .. كلما ينبغي أن تتوسع بحقه ساحة التأويل وإقالة العثرات .. عند ورود الشبهات، وحصول الكبوات .. والله تعالى أعلم.
5- أن فعل الوشاية الذي أقدم عليه حاطب لم يكن فعلاً ملازماً له .. فهو لم يفعل ذلك إلا مرة واحدة في حياته، ولأسباب تقدم ذكرها .. وهذا بخلاف ما عليه الجاسوس فإن التجسس صفة لازمة له على مدار الوقت .. لا هم له إلا كيف يتحصل على المعلومات لكي يرسلها إلى موفديه أو من يتعامل معهم ..!
فهناك فرق بين من يقع في الخطأ مرة .. وبين من يقع في الخطأ مراراً من حيث دلالته على صفة وحقيقة فاعله.
لذا من الخطأ الفادح أن يُحمل على حاطب حكم ووصف الجاسوس الآنف الذكر .. والله تعالى أعلم.
وبعد، لأجل هذه الأسباب مجتمعة أفدنا في أول حديثنا أن فعل حاطب يُعتبر من الكفر، ومن الموالاة الكبرى، إلا أن حاطباً لم يكفر بعينه .. ولا يجوز أن يُحمل عليه حكم الكفر، والله تعالى أعلم.
كلمة أخيرة: إلى أولئك الذين هان عليهم دينهم، وسهل عليهم التجسس على المسلمين لصالح الطواغيت باسم الدين، متذرعين بفتاوى بعض المضللين المشبوهين ممن ظاهرهم العلم .. مقابل مبلغ زهيد يعطونه على كل تقرير يكتبونه إلى مخابرات الطواغيت .. لا يحسب هؤلاء أنهم على خير، أو أنهم على شيء .. وليتذكروا أن لهم يوماً سيسألون فيه عما يفعلون .. وينتصف الله تعالى منهم لعباده المظلومين.
فقد صح عن النبي أنه قال:" من أعان ظالماً بباطل ليدحض بباطله حقاً فقد برئ من ذمة الله وذمة رسوله "(1).
فكيف بمن يعين الطواغيت الظالمين على اعتقال المسلمين الموحدين وقتلهم، وانتهاك حرماتهم ..؟!
فكم من تقرير ظالم كتبه مخبر حقير أدى إلى اعتقال عشرات من الشباب المسلم الموحد ـ لعشرات السنين ـ في أقبية وزنازين الطواغيت .. إن لم يكن سبباً في قتلهم وإعدامهم ..!
وفي صحيح مسلم وغيره:" المؤمن من أمنه المسلمون على أنفسهم وأموالهم .. والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ".
فالذي لا يأمنه المسلمون على أنفسهم .. ولا يسلمون من شر يده ـــــــــــــــــ
(1) أخرجه الطبراني، السلسلة الصحيحة:1020.
ولسانه .. فهو بنص الحديث ليس من المؤمنين ولا المسلمين.
فاتق الله يا عبد الله .. واحذر أن تكون ممن يتجسسون لصالح الطواغيت الظالمين .. أو يجادلون عنهم .. أو يُقاتلون دونهم .. فتهلك وتخسر دنياك وآخرتك.
اللهم إنا قد بلغنا ونصحنا .. فاشهد.
وصلى الله على محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلَّم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
6/3/1422 هـ. عبد المنعم مصطفى حليمة
28/5/2001 م. أبو بصير
www.abubaseer.com
ملاحظة: هذا المقال مقتطع من كتابنا " أعمال تُخرج صاحبها من الملة " يسر الله تعالى إتمامه، ونشره.
أعتقد أن الأخ عليه أن يراجع نفسه قبل أن يخرج نفسه من الملة ..
|