عرض مشاركة مفردة
  #64  
قديم 23-04-2005, 12:28 PM
memo2002 memo2002 غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
المشاركات: 1,503
إفتراضي

ولادة بدون ألم

وهي تتأرجح ما بين انقباضٍ وانقباض.. كأنّها تودّع الحياة.. كأنّ عظامها تُدَكّ.. وتُسحَقُ بين الرّحا.. كأنها في بحرٍ لا قرار له ولا ساحل.. يلاطمها الموجُ الكاسِر.. تتقلّب بين الخوف والرجاء.. تصرخ وتستغيث.. تتخبّط في الطريق.. تتناول الهاتف ببقيةِ عقلٍ تحمله وبصوتٍ يترنّح ألماً وينتفضُ رُعباً.. "احضر بسرعة.. أتاني الطّلق".. بجنونٍ يلتهمُ الخطى نحوها.. وكأن الشوارع أمامهُ لا نهاية لها.. ما أطول الطريق في نظره الليلة.. المستشفى أبعد بكثير مما تعوّد..، أخذ يُصارع المركبات العابِرة ويصرَع الإشارات.. تتنقل يدهُ بين الإمساك بالمقود.. وبين يدَي امرأتهِ المرتَجِفَة..، الخطبُ جلل.. وهي بجانبه تتألم.. تتأوّه.. تصرخ..، رعبُه لا حدّ له..، خوفُه لا مثيل له..، حيرتُه وألمه وترقّبه.. شعورٌ غريب..، و بنبرةِ من يتصنّع الجَلَد والقوة..وبلهجةِ من لا يملكُ من الأمر شيئاً.."حبيبتي.. اصبري.. لا تقلقي..لا تخافي.. لا تبكي.. ستكونين بخير.. بعد قليل ستسمعين أعذب لحن"..!!!

دائماً أسأل أي مريضةٍ ترفضُ إجراءً معيّناً أو فحصاً ما خوفاً من الألم؛ هل جرّبتِ الولادة؟، فعندما تردّ بالإيجاب؛ أقول لها أنه لا يوجد ألم أشد ولا أصعب من ذاك الألم، فتتمتم.. نعم صادقة.. وتُسَلّم إليّ نفسُها طائعةً مُختَارَة وتستسلمُ للفحصِ بلا خوفٍ ولا تردد..!!!

أحقاً أن ألم الولادة بتلك الصعوبة..؟!! أحقاً أنّه لا يُنافسه في شدّته وقسوته ألم..؟!! هل لأجل ذلك تنافس المراكز الطبية بإعلاناتها عن ولادة بدون ألم..؟!! ويعمل أطباء التخدير جنباً إلى جنب مع أطباء النساء والولادة لدراسة أحدث الطرق للتخفيف من ألم الولادة..؟!!

لا أدري لماذا.. ولكن لغرفةِ الولادةِ عندي سحرها الذي لا يُقَاوَم.. أدخُلها فتنتعشُ نفسي.. وتُرَدُّ إليّ روحي..، أتجوّل في حُجراتها وبين أسرّتها فأشعرُ أني طائرٌ.. في السماء محلّق.. لا حدّ له.. ولا نهاية..!!

أدخلها فكأني دخلتُ عالماً آخر.. عالمٌ لا تسمعُ فيهِ إلا التأوّه.. والصراخ.. عالمٌ من الآلام.. وطولِ الانتظار..!! لكنه في أعماقِ نفسي.. عالمٌ أبعد بكثير عن هذا وعلى النقيض تماماً من كل هذا..!!!!!

لم يكُن ذلك اليوم كغيرهِ.. كل غُرَفِ الولادة مشغولة.. وكل الحوامل.. سيلدْنَ للمرة الأولى..!!، عبثاً أحاوِلُ الطمأنةَ وتخفيف الألم..، أمسك بيديّ هذه، وأُرجِع القناع إلى تلك..، أُصَبّر هذه التي أكملت يومين من الطّلق والألم..، واطلب من تلك الدّفع بأقصى قوتها..، ومن تلك التنفس العميق والاستلقاء على الجنب..، نُتابِع بقلق والقابلات انتظام انقباض الرحم وانبساطه.. ، ودفع الحياة في عروق الجنين بمتابعة دقات قلبه ونبضاته..!!

بصراحة.. كلما شعرتُ بضيقٍ في نفسي، واسودادٍ للدنيا في عيني؛ هرعتُ إلى تلك الغرفة، وكلما ازداد الطّلقُ قوّةً، وكلّما طالَت فترةُ المخاض، اتحدّت معها فكأن الألم ألمي، نعم.. يتّحَد الألم، ويفيضُ من النفس الشجنُ، أمرّن نفسي على التنقّل من حالة الخوف واليأس إلى التفاؤل والرجاء، أصبّر نفسي وأمنّيها بسماعِ صوتِ المولود، وانقضاء الألم..!!

كلما شعرتُ بحاجَتي إلى جرعَةِ تفاؤل، هرعتُ إلى تلك الغرفة، ألومُ نفسي على جزعها وأجرّمها على يأسها وأذكّرها بوجوب الثقة بالله ونصره ".......وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ"، "......وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا"، و أسليها بـ"أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ......"..!!

"كلا إن معي ربي سيهدين.."!!، أتذكّرها.. أتعجّب من تلكَ الثقة.. وذلك التفاؤل.. وأتخيّل الموقف..، لمّا جاء فرعون وجنوده وأجمعوا كيدهم وبغيهم وظُلمهم وعدوانهم وأُسقط في يد ضعفاء النفوس وقال بعض من مع موسى عليه السلام إنا لمُدرَكون، لا محالة هالكون، لا فائدة ، لا نجاة، لا نصر، محاطٌ بنا، ستقع الكارثة، سيُدركنا فرعون، سيأخذنا، سيقتلنا، سننتهي..، جاءت كلماتُه الواثقة كالغيث.. لتحيي النفوس.. وترسمُ الطريق.. للنّصر..

لمّا جاء خبّاب بن الأرّت إلى النبي صلى الله عليه و سلم وهو متوسدٌ بردةً له في ظل الكعبة يشكو له الشدة التي أصابته و أصابت أصحابه المسلمين في مكة، فقد حُرق ظهره، وكَوته مولاته الكافرة بأسياخ الحديد المحماة ويشدد عليهِ في السؤال: ألا تدعو لنا؟!!!، ألا تستنصر لنا؟!!!، فيجيبهُ r : "كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض فيُجعل فيه، فيُجاء بالميشار ـ المنشار ـ فيوضعُ على رأسه فيُشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه"، ثم يعلنها مدويّة بأبي هو وأمي صلواتُ الله وسلامُه عليه بلهجةِ الواثق: " والله! لَيُتِمَّنَّ هذا الأمر حتى يَسير الراكب من صنعاءَ إلى حضرموت لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون"..، يقولها في أحلك الظروف في مكة..، ولكنكم تستعجلون..!!!

ولمّا حاصر الأحزاب المدينة و اجتمعوا عليها، وأحاطوا بالمسلمين إحاطة السوار بالمعصم، المسلمون أقل عدداً و عدةً و في ذلك الضعف و الليل والظلمة والريح الباردة الشديدة؛ يعملون بأيديهم مع جوعهم وفي تلك الظروف القاسية في حفر الخندق، يشكون للنبي r صخرة لم تأخذها المعاول، فينزل r ويضع ثوبه، ويهبط إلى الصخرة، فيأخذ المِعْوَلَ، ويقول: «بسم الله». ويضرب ضربة، فيكسر ثُلُثَ الحجر، ويقول: «الله أكبر، أُعطيتُ مفاتيح الشام، والله! إني لأبصر قصورها الحمرَ من مكاني هذا». ثم يقول: «بسم الله» ويضرب أُخرى، فيكسر ثُلُثَ الحجر، فيقول: «الله أكبر، أُعطيت مفاتيح فارس، والله! إني لأبصر المدائن، وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا». ثم يقول: «بسم الله» ويضرب ضربة أُخرى، فيقلع بقية الحجر، ويقول: «الله أكبر، أُعطيت مفاتيح اليمن، والله! إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا»!!!!!، في أحلك الظروف و أسوأها وقد بلغت القلوب الحناجر من شدّة الخفقان والفزع و ظنّ البعض بالله الظنون، وابتُلي المؤمنون و زُلزِلوا زِلزالاً شديداً، وفُضِح المنافقون ومن في قلبِهِ مرض، وسط كل هذا يبثّ r روح التفاؤل بين أصحابه.. يذكّرهم بوعد الله.. بالنصر والتمكين..، ينعشُ أنفسهم بذكر الجنة والنعيم..، يشفي صدورهم بذكر حال الكفار المكذبين..، حتى ردّ الله الذين كفروا بغيظهم بريح لم تُتوقع و بملائكة تنزل وقذف سبحانه في قلوبهم الرعب، فريقاً يقتلُ المسلمونَ ويأسرون فريقاً..!!!!!!