قال -جل وعلا- بعد ذلك: ( يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ) إنما هي أعمالكم -يعني: أن المقصود من إيجادكم الابتلاء والتكليف- فإنما الأمر راجع إلى أعمالكم، لم يخلق الله -جل وعلا- الخلق لأنهم سينفعوه، أو لأنه يخشى منهم أن يضروه، أو لأنه -سبحانه- محتاج أن يعطيهم، بل إنما هو الابتلاء، ابتلاؤهم بهذا التكليف بهذا الأمر العظيم، وهو عبادته سبحانه.
كما قال: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً {72} الأحزاب ، وكما قال -جل وعلا-: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ {56} مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ {57} إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ {58}الذاريات .
فغنى الله -سبحانه وتعالى- عن عباده أعظم الغنى، وهم محتاجون إليه، والابتلاء حصل بخلقهم، فابتلى الله العباد بحياتهم، ونتيجة هذا الابتلاء أن أعمالهم ستحصى: ( إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ) وقوله -جل وعلا-: "أحصيها" الإحصاء بمعنى العد التفصيلي والحفظ؛ لأن الإحصاء له مراتب: فمنها العد التفصيلي، ومنها الحفظ وعدم التضييع، كما قال -جل وعلا-: (لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً {94} وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً {95} مريم .
وكما قال -جل وعلا-: (لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً {28} الجن ، والإحصاء يشمل معرفة التفاصيل وكتابة ذلك، ويشمل أيضا الحفظ وعدم التضييع: ( فإنما هي أعمالكم أحصيها ) يعني تكتب عليكم بتفاصيلها، وأعرفكم إياها بتفاصيلها، وأحفظها لكم فلا تضيع
( ثم أوفيكم إياها ) الحسنات بالحسنات، والسيئات بما يحكم الله -جل وعلا- فيه، فمن فعل السيئات فهو على خطر عظيم، ومن فعل الحسنات فهو على رجاء أن يكون من الناجين.
قال: ( فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) لأن العبد هو الحسيب على نفسه: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ {38} المدثر ، كل نفس تعلم ما تعمل وصوابها وخطأها، ولو ألقت المعاذير: (بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ {14} وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ {15} القيامة ، قال: ( فمن وجد خيرا فليحمد الله ) يعني: فليثن على الله -جل وعلا- بذلك؛ لأنه هو الذي أعانه.
ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه؛ لأن العبد هو الذي جنى على نفسه، والله -سبحانه- أقام الحجة وبين المحجة، وسلك بنا السبيل الأقوم، فالأمر واضح والعباد هم الذين يجنون على نفسهم.
( اللهم، اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت )
إنتهى شرح الحديث الثالث والعشرون
تحياتي