كتاب الفكر الاسلامي للإمام تقي الدين النبهاني
الله حقيقة ملموس وجودها وليس فكرة متخيَّلة في الأذهان
كثيرون على وجه الأرض، ولا سيما في العالم الغربي، يعتقدون بالله ويؤمنون به، ولكن اعتقادهم وإيمانهم مبني على أن الله فكرة وليس حقيقة. وهؤلاء يرون أن الإيمان بوجود "إله" إيمان بوجود فكرة الألوهية، وهي فكرة يقولون عنها إنها جميلة!! لأنه ما دام الإنسان يتخيلها، ويعتقد بها، ويخضع لسلطانها، فهو يبتعد عن الشر ويقترب من الخير بدافع هذه الفكرة. فهي رادع داخلي يفعل أكثر مما يفعله الدافع الخارجي. ولذلك يرون أنه يجب الإيمان بالله، ويجب تشجيع الإيمان به، حتى يظل الناس خيّرين مدفوعين إلى الخير بدافع داخلي يسمونه "الوازع الديني"!!..
وهؤلاء ما أسهل ما يجرون إلى الإلحاد، وما أقرب ما يرتدون عن إيمانهم هذا بمجرد أن يندفع العقل بالتفكير للمس وجود هذه "الفكرة". فإذا لم يلمس وجودها، ولم يدرك لهذا الوجود أثراً، جحد وجود إله وكفر بالله. وفوق هذا، فإن الإيمان بأن الله فكرة وليس حقيقة يجعل الخير أيضاً فكرة وليس حقيقة، ويجعل الشر أيضاً فكرة وليس حقيقة، فيقوم الإنسان بالأعمال بقدر ما يتخيل فيها من فكرة الخير، ويبتعد عنها بقدر ما يتخيل فيها من فكرة الشر.
والذى أدى بهؤلاء إلى هذا النوع من الإيمان هو أنهم لم يستعملوا العقل في الوصول إلى الإيمان بالله، ولم يهتدوا لحل العقدة الكبرى الناشئة من الأسئلة الطبيعية عن الكون والإنسان والحياة، وعما قبل الحياة الدنيا وعما بعدها، وعن علاقتها بما قبلها وما بعدها، حلاً عقلياً، وإنما لُقّنوا الحل الذي يريده ملقّنهم، فسلّموا بهذا الحل وظلوا مؤمنين دون أن يدركوا حساً وجود الذي آمنوا به. وكثير منهم من كان يحاول أن يستعمل عقله فيجاب أن الدين فوق العقل ويُجبَر على السكوت!
والصواب أن الله حقيقة وليس فكرة، وأن وجوده ملموس محسوس، وإن كانت ذاته يستحيل إدراكها. ألا ترى أن الإنسان يسمع دوي طائرة في السماء ولا يراها، لأنه جالس داخل غرفته، ومع ذلك فإنه من حسه بصوتها يدرك وجودها ولو لم يرها ولم يحس بذاتها. فهو يعتقد بوجود طائرة في السماء من سماعه صوتها، أي يصدق جازماً عن يقين بوجود الطائرة. فإدراك وجود الطائرة غير إدراك ذاتها. فإدراك ذاتها لم يحصل لعدم الإحساس بذاتها، وإدراك وجودها قطعي من الإحساس بصوتها. فوجود الطائرة حقيقة وليس فكرة.
وكذلك هذه الأشياء المدرَكة المحسوسة، فإن وجودها أمر قطعي لأنها مشاهَدة محسوسة، وكونها محتاجة لغيرها أمر قطعي، لأنه مشاهَد محسوس. فالأجرام السماوية محتاجة إلى النظام، والنار حتى تحرق محتاجة لمن يستعملها، وهكذا كل شيء مدرَك محسوس محتاج لغيره. والمحتاج لا يمكن أن يكون أزلياً، إذ لو كان أزلياً لاستغنى عن غيره، فكونه محتاجاً معناه أنه ليس بأزلي. وعلى ذلك فإنّ كون الأشياء المدرَكة المحسوسة جميعها مخلوقة أمر قطعي، إذ غير الأزلي يعني أنه مخلوق لخالق. فالإحساس بهذه المخلوقات كالإحساس بصوت الطائرة أمر قطعي، ووجود خالق لهذه المخلوقات صدرت عنه، كوجود الطائرة التي صدر عنها الصوت، أمر قطعي، فصار وجود الخالق للمخلوقات أمراً قطعياً. فالإنسان قد أدرك المخلوقات بحسه وعقله، وأدرك من الإحساس بها وجود خالق لها قطعاً. فوجود الخالق حقيقة قد لمس الإنسان وجودها بالحس وليس فكرة تخيلها الإنسان في ذهنه.
وهذا الخالق يجب عقلاً أن يكون أزلياً، إذ لو كان غير أزلي لكان محتاجاً فيكون مخلوقاً، وبما أن الطبيعة ليست أزلية لأنها محتاجة إلى أن تسير بنسب وأحوال معينة لا تستطيع إلاّ أن تتقيد بها فهي محتاجة إلى هذه النسب والأحوال. وبما أن المادة ليست أزلية لأنها محتاجة إذ لا تستطيع أن تتحول من حال إلى حال إلاّ بتكاثر معين ونسب معينة، ولا تستطيع إلاّ أن تتقيد بهذه النسب وهذا القدر من التكاثر، فهي محتاجة، فتكون الطبيعة ليست خالقاً لأنها ليست أزلية قديمة، وتكون المادة ليست خالقاً لأنها ليست أزلية قديمة، فلم يبق إلاّ أن يكون الخالق هو الله تعالى، أي: ذلك الأزلي القديم الذي يسميه الناس الله، أو GOD أو الهيم، أو ما شاكل ذلك من الأسماء التي تدل على مسمى واحد هو الله، أي الخالق الأزلي القديم.
فالله حقيقة يُلمس وجودها بالحس من وجود مخلوقاته، والإنسان حين يخاف الله يخاف من ذاتٍ موجودة حقيقة يلمس وجودها بالحس، وحين يعبد الله يعبد ذاتاً موجودة حقيقة يلمس وجودها بالحس، وحين يطلب رضوان الله يطلب رضوان ذاتٍ موجودة حقيقة يلمس وجودها بالحس. ولذلك يكون الإنسان خائفاً من الله، عابداً الله، طالباً رضوان الله عن يقين لا يتطرق إليه أي ارتياب.
المبـدأ
المبدأ في اللغة مصدر ميمي من بدأ يبدأ بدءاً ومبدأ. وفي اصطلاح الناس جميعاً هو الفكر الأساسي الذي تُبنى عليه أفكار. فيقول الشخص: مبدئي هو الصدق، ويقصد أن يقول إن الأساس الذي أقيم عليه تصرفاتي هو الصدق؛ ويقول شخص آخر: إن مبدئي هو الوفاء، ويقصد من ذلك أن الوفاء هو الأساس الذي يقيم عليه معاملاته، وهكذا. إلاّ أن الناس أطلقوا على أفكار فرعية يمكن أن تُبنى عليها أفكار أخرى فرعية أيضاً بأنها مبادئ، على اعتبار أنها أفكار أساسية، فقالوا: الصدق مبدأ، وقالوا: حُسن الجوار مبدأ، وقالوا عن التعاون: إنه مبدأ، وهكذا.. ومن هنا قالوا: مبادئ الأخلاق، ومبادئ الاقتصاد، ومبادئ القانون، ومبادئ الاجتماع.. وهكذا، وأرادوا أفكاراً معينة من الاقتصاد تُبنى عليها أفكار منبثقة عنها، وأفكاراً معينة من القانون تُبنى عليها أفكار منبثقة عنها، قالوا عنها إنها مبادئ اقتصادية ومبادئ قانونية، وهكذا.
والحقيقة أن هذه ليست مبادئ، وإنّما هي قواعد أو أفكار، لأن المبدأ فكر أساسي، وهذه ليست أفكاراً أساسية بل أفكاراً فرعية، كونها تُبنى عليها أفكار لا يجعلها أفكاراً أساسية مطلقاً، بل تبقى أفكاراً فرعية ولو بُنيت عليها أفكار، أو انبثقت عنها أفكار، ما دامت هي ليست أساسية، وإنّما منبثقة عن أفكار أخرى، أو منبثقة جميعها عن فكر أساسي.
|