فالصدق والوفاء والتعاون وغيرها، أفكار فرعية وليست أساسية، لأنها مأخوذة عن فكر أساسي، وليست هي الأساس، لأن الصدق فرع لأساس، فهو حكم شرعي مأخوذ من القرآن عند المسلمين، وصفة جميلة نافعة مأخوذة عن الفكر الرأسمالي عند غير المسلمين.
وعلى هذا لا يسمى الفكر مبدأ إلاّ إذا كان فكرا أساسياً تنبثق عنه أفكار. والفكر الأساسي هو الذي لا يوجد قبله فكر مطلقاً. وهذا الفكر الأساسي محصور في الفكرة الكلية عن الكون والإنسان والحياة، ولا يوجد غيرها فكر أساسي، لأن هذا الفكر هو الأساس في الحياة. فالإنسان إذا نظر لنفسه وجد أنه إنسان يحيا في الكون، فما لم يوجَد عنده فكر عن نفسه وعن الحياة وعن الكون من حيث الوجود والإيجاد، لا يمكن أن يُعطى فكراً يصلح أساساً لحياته. ولذلك تبقى حياته سائرة دون أساس، مائعة، متلونة، متنقلة، ما لم يوجد هذا الفكر الأساسي، أي ما لم توجد الفكرة الكلية عن نفسه وعن الحياة وعن الكون.
ومن هنا كانت الفكرة الكلية عن الكون والإنسان والحياة هي الفكر الأساسي، وهي العقيدة. إلاّ أن هذه العقيدة لا يمكن أن تنبثق عنها أفكار، ولا أن تُبنى عليها أفكار، إلاّ إذا كانت هي فكراً، أي كانت نتيجة بحث عقلي. أمّا إذا كانت تسليماً وتلقّياً، فلا تكون فكراً، ولا تسمى فكرة كلية، وإن كان يصح أن تسمى عقيدة. ولذلك كان لا بد أن تكون الفكرة الكلية قد توصّل إليها الإنسان عن طريق العقل، أي أن تكون نتيجة بحث عقلي، فتكون حينئذ عقيدة عقلية، وحينئذ تنبثق عنها أفكار وتُبنى عليها أفكار. وهذه الأفكار هي معالَجات لمشاكل الحياة، أي هي الأحكام التي تنظِّم للإنسان شؤون الحياة. ومتى وُجدت هذه العقيدة العقلية وانبثقت عنها أحكام تعالج مشاكل الحياة فقد وُجد المبدأ. ولذلك عُرف المبدأ بأنه عقيدة عقلية ينبثق عنها نظام. ومن هنا كان الإسلام مبدأ لأنه عقيدة عقلية ينبثق عنها نظام، وهو الأحكام الشرعية، لأنها تعالج مشاكل الحياة؛ وكانت الشيوعية مبدأ لأنها عقيدة عقلية ينبثق عنها نظام هو الأفكار التي تعالج مشاكل الحياة، وكانت الرأسمالية مبدأ لأنها عقيدة عقلية تُبنى عليها أفكار تعالج مشاكل الحياة.
ومن هنا أيضاً يتبين أن القومية ليست مبدأ، ولا الوطنية مبدأ، ولا النازية مبدأ، ولا الوجودية مبدأ، لأن كل واحدة منها ليست عقيدة عقلية، ولا ينبثق عنها أي نظام، ولا تُبنى عليها أي أفكار تعالج مشاكل الحياة.
أمّا الأديان فإن كانت عقيدتها عقلة قد توصل إليها عن طريق العقل وينبثق عنها نظام يعالج مشاكل الحياة، أو تبنى عليها أفكار، فهي مبدأ ينطبق عليها تعريف المبدأ. وإن كانت عقيدتها ليست عقلية، بأن كانت عقيدة وجدانية لُقّنت تلقيناً وطُلب التسليم بها دون بحث العقل، وكان لا ينبثق عنها نظام، ولا تُبنى عليها أفكار، فكل الأديان التي من هذا النوع ليست مبدأ، لأن عقيدتها ليست عقلية ولا تنبثق عنها أنظمة للحياة.
مقياس الأعمال
يسير كثير من الناس في الحياة على غير هدى، فيقومون بأعمالهم على غير مقياس يقيسون عليه. ولذلك تراهم يقومون بأعمال قبيحة يظنونها حسنة، ويمتنعون عن القيام بأعمال حسنة يظنونها قبيحة. فالمرأة المسلمة التي تمشي في شوارع أمهات المدن الإسلامية كبيروت ودمشق والقاهرة وبغداد تكشف عن ساقيها، وتُبرز محاسنها ومفاتنها، وهي تظن أنها تقوم بفعل حسن، والرجل الورع الملازِم للمساجد يمتنع عن الخوض في تصرفات الحكام الفاسدة لأنها من السياسة، وهو يظن أن الخوض في السياسة فعل قبيح. وهذه المرأة وهذا الرجل وقعا في الإثم، فكشفت هي عورتها، ولم يهتم هو بأمر المسلمين، لأنهما لم يتخذا لأنفسهما مقياساً يقيسان أعمالهما بحسبه. ولو اتخذا مقياساً لَما تناقضا هذا التناقض في تصرفاتهما مع المبدأ الذي يعلنان بصراحة أنهما يعتنقانه. ولذلك كان لا بد للإنسان من مقياس يقيس أعماله عليه حتى يعرف حقيقة العمل قبل أن يُقدم عليه.
والإسلام قد جعل للإنسان مقياساً يقيس عليه الأشياء، فيعرف قبيحها من حسنها، فيمتنع عن الفعل القبيح، ويقدِم على الفعل الحسن. وهذا القياس هو الشرع وحده؛ فما حسّنه الشرع من الأفعال هو الحسن، وما قبّحه الشرع هو القبيح. وهذا المقياس دائمي، فلا يصبح الحسن قبيحاً، ولا يتحول القبيح إلى حسن؛ بل ما قال عنه الشرع حسناً يبقى حسناً، وما قال الشرع عنه قبيحاً يبقى قبيحاً.
وبذلك يكون الإنسان قد سار في طريق مستقيم، وعلى هدى من أمره، فيدرك الأمور على حقيقتها، بخلاف ما لو لم يجعل الشرع مقياساً للحُسن والقُبح، بأن جَعل العقل مقياساً له، فإنه يسير متخبطاً لأنه يصبح الشيء حسناً في حال وقبيحاً في حال آخر، إذ العقل قد يرى الشيء الواحد حسناً اليوم ثم يراه قبيحاً غداً، وقد يراه حسناً في بلد قبيحاً في بلد أخرى، فيصبح الحكم على الأشياء في مهب الريح، ويصبح الحُسن والقُبح نسبياً لا حقيقيا. وحينئذ يقع في ورطة القيام بالفعل القبيح وهو يظنه حسناً ويمتنع عن الفعل الحسن وهو يظنه قبيحاً.
وعليه، كان لا بد من تحكيم الشرع وجعله مقياساً للأفعال كلها وجعل الحَسن ما حسّنه الشرع والقبيح ما قبّحه الشرع.
التدين غريزة
في الإنسان طاقة حيوية تدفعه للقيام بأعماله وتتطلب إشباعاً. وهذه الطاقة الحيوية ذات مظهرين اثنين: أحدهما يتطلب الإشباع الحتمي، وإذا لم تُشبع يموت الإنسان، وهذه هي الحاجات العضوية كالأكل والشرب وقضاء الحاجة. والثانية تتطلب الإشباع ولكن إذا لم تُشبع لا يموت الإنسان وإنّما يكون قلقاً حتى يشبعها، وهذه هي الغرائز، وعملها يكون بشعور طبيعي يندفع متطلباً الإشباع.
إلاّ أن الغرائز ليست كالحاجات العضوية من حيث الدافع، بل تختلف عنها، لأن الحاجات العضوية دافعها داخلي، أمّا الغرائز فإن الذي يدفعها أو يُظهِر الشعور بتطلب الإشباع هو: إما أفكار تتداعى عن الشيء الذي يثير المشاعر، أو واقع محسوس يثير المشاعر للإشباع. فغريزة النوع مثلاً يثيرها التفكير بفتاة جميلة، أو بما يتعلق بالجنس، أو برؤية فتاة جميلة أو أي شيء يتعلق بالجنس. وإذا لم يحصل ذلك لا يحصل ما يثير الغريزة. وغريزة التدين يثيرها التفكير بآيات الله، أو في يوم القيامة، أو ما يتعلق بذلك، أو النظرة إلى بديع صنع الله مما في السموات والأرض، أو ما يتعلق بذلك. ومن هنا نجد الغريزة ظاهرة آثارها عند حصول ما يثيرها، ولا تُرى هذه الآثار في حالة عدم وجود ما يثيرها، أو في حالة تحويل ما يثيرها عن الإثارة بتفسيره تفسيرات مغالطة تُفقده لدى مفهوم الشخص صفته الأصلية التي تثير الغريزة.
والتدين غريزة طبيعية ثابتة، إذ هو الشعور بالحاجة إلى الخالق المدبر بغض النظر عن تفسير هذا الخالق المدبر. وهذا الشعور فطري يكون في الإنسان من حيث هو إنسان، سواء أكان مؤمناً بوجود الخالق، أو كافراً به مؤمناً بالمادة أو الطبيعة. ووجود هذا الشعور في الإنسان حتمي لأنه يخلق معه جزءاً من تكوينه، ولا يمكن أن يخلو منه أو ينفصل عنه، وهذا هو التدين.
والمظهر الذي يظهر به هذا التدين هو التقديس لما يعتقد أنه هو الخالق المدبر، أو الذي يتصور أنه قد حل به الخالق المدبر. وقد يظهر التقديس بمظهره الحقيقي فيكون عبادة، وقد يظهر بأقل صوره فيكون التعظيم والتبجيل.
|