والتقديس هو منتهى الاحترام القلبي، وهو ليس ناتجاً عن الخوف بل ناتجاً عن التدين. لأن الخوف ليس مظهره التقديس، بل مظهره الملق، أو الهروب، أو الدفاع، وذلك يناقض حقيقة التقديس. فالتقديس مظهر للتدين لا للخوف، فيكون التدين غريزة مستقلة غير غريزة البقاء التي من مظاهرها الخوف، ولذلك نجد الإنسان متديناً. ومنذ أن أوجده الله على الأرض نجده يعبد شيئاً. فقد عبد الشمس والكواكب، والنار، والأصنام، وعبد الله. ولا نجد عصراً، ولا أمّة، ولا شعباً، إلاّ وهو يعبد شيئاً. حتى الشعوب التي قام فيها السلطان بالقوة يجبرها على ترك التدين، كانت متدينة تعبد شيئاً، رغم القوة التي تتسلط عليها، وتتحمل كل الأذى في سبيل أداء عبادتها. ولن تستطيع قوة أن تنزع من الإنسان التدين، وتزيل منه تقديس الخالق، وتمنعه من العبادة، وإنّما تستطيع أن تكبت ذلك إلى زمن، لأن العبادة مظهر طبيعي من مظاهر التدين الذي هو غريزة طبيعية في الإنسان.
أمّا ما يظهر على بعض الملحدين من عدم العبادة، أو من الاستهزاء بالعبادة، فإن هؤلاء قد صُرفت غزيرة التدين عندهم عن عبادة الله إلى عبادة المخلوقات، وجعل مظهرها في تقديس الطبيعة أو الأبطال أو الأشياء الضخمة، أو ما شاكل ذلك، واستُعملت لهذا الصرف المغالطات والتفسيرات الخاطئة للأشياء.
ومن هنا كان الكفر أصعب من الإيمان، لأنه صرفٌ للإنسان عن فطرته، وتحويل لها عن مظاهرها الحقيقية. فيحتاج ذلك إلى جهد كبير. وما أصعب أن ينصرف الإنسان عن مقتضى طبيعته وفطرته!
ولذلك تجد الملحدين حين ينكشف لهم الحق، ويبدو لهم وجود الله حساً فيدركون وجوده بالعقل إدراكاً جازماً، تجدهم يسرعون إلى الإيمان ويشعرون بالراحة والاطمئنان، ويزول عنهم كابوس كان يثقلهم، ويكون إيمان أمثال هؤلاء راسخاً قوياً لأنه جاء عن حس ويقين، لأن عقلهم ارتبط بوجدانهم، فأدركوا إدراكاً يقينياً وجود الله، وشعروا شعوراً يقينياً بوجوده، فالتقت فطرتهم بعقلهم، فكانت قوة الإيمان.
الفرض على الكفاية فرض على كل مسلم
الفرض هو خطاب الشارع المتعلق بطلب الفعل طلباً جازماً، كقوله تعالى: (أقيموا الصلاة) (انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا في سبيل الله)، وكقوله عليه الصلاة والسلام: (إنّما جُعل الإمام ليُؤتمَّ به) (من مات وليس في عنقه بيعة فقد مات ميتة جاهلية). فهذه النصوص كلها خطاب من الشارع متعلق بطلب الفعل طلباً جازماً. والذي جعل الطلب جازماً القرينة التي جاءت فيما يتعلق بالطلب فجعلته جازماً، فيجب القيام به. ولا يسقط الفرض بحال من الأحوال حتى يقام العمل الذي فُرض. ويستحق تارك الفرض العقاب على تركه، ويظل آثماً حتى يقوم به. ولا فرق في ذلك بين فرض العين والفرض على الكفاية، فكلها فرض على جميع المسلمين، فقوله تعالى: (أقيموا الصلاة) فرض عين، وقوله تعالى: (انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا) فرض كفاية، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما جُعل الإمام ليُؤتمّ به) فرض عين، وقوله عليه السلام: (من مات وليس في عنقه بيعة.. الحديث) فرض كفاية. وكلها فرض تثبُت بخطاب الشارع المتعلق بطلب الفعل طلباً جازماً. فمحاولة التفريق بين فرض العين والفرض على الكفاية من جهة الوجوب إثم عند الله، وصد عن سبيل الله، ومغالطة للتساهل بالقيام بفروض الله تعالى.
أمّا من حيث سقوط الفرض عمن وجب عليه، فإنه أيضاً لا فرق بين فرض العين وفرض الكفاية. فلا يسقط الفرض حتى يقام العمل الذي طلبه الشارع، سواء طُلب القيام به من كل مسلم كالصلاة المكتوبة، أو طُلب القيام به من جميع المسلمين كبيعة الخليفة، فإن كلاً منها لا يسقط حتى يقام العمل، أي حتى تقام الصلاة، وحتى يقام الخليفة وتحصل البيعة له. ففرض الكفاية لا يسقط عن أي واحد من المسلمين إذا قام بعضهم بما يقيمه حتى يتم قيامه، فيبقى كل مسلم آثماً ما دام القيام بالعمل لم يتم.
وعلى ذلك فمن الخطأ أن يقال إن فرض الكفاية هو الذي إذا قام به البعض سقط عن الباقين، بل فرض الكفاية هو الذي إذا أقامه البعض سقط عن الباقين. وسقوطه حينئذ أمر واقعي، لأن العمل المطلوب قد قام ووُجد، فلم يبق مجال لبقائه. هذا هو الفرض على الكفاية، وهو كفرض العين سواء بسواء. وعلى ذلك فإن إقامة الدولة الإسلامية فرض على جميع المسلمين، أي على كل مسلم من المسلمين. ولا يسقط هذا الفرض عن أي واحد من المسلمين حتى تقوم الدولة الإسلامية. فإذا قام البعض بما يقيم الدولة الإسلامية لا يسقط الفرض عن أي واحد من المسلمين ما دامت الدولة الإسلامية لم تقم، ويبقى الفرض على كل مسلم، ويبقى الإثم على كل مسلم حتى يتم قيام الدولة. ولا يسقط الإثم عن أي مسلم حتى يباشِر القيام بما يقيمها، مستمراً على ذلك حتى تقوم. وجهاد الفرنسيين في الجزائر فرض على جميع المسلمين، فإذا قام أهل الجزائر بجهاد الفرنسيين، لا يسقط الفرض عن أحد من المسلمين حتى يتم إخراج الفرنسيين من الجزائر ويتم انتصار المسلمين. وهكذا كل فرض على الكفاية يبقى فرضاً على كل مسلم ولا يسقط هذا الفرض حتى يقام العمل المطلوب.
لا إله إلاّ الله تعني: لا معبود إلاّ الله
لمّا كان التقديس في الإنسان فطرياً، كان الإنسان من فطرته أن يعبد شيئاً. فالعبادة رَجْع طبيعي لغريزة التدين. ولذلك يشعر الإنسان حين يؤدي العبادة براحة وطمأنينة، لأنه في أدائه العبادة يكون قد أشبع غريزة التدين. إلاّ أن هذه العبادة لا يجوز أن تُترك للوجدان أن يقررها كما يتطلب، ويؤديها الإنسان كما يتخيل، بل لا بد أن يشترك العقل مع الوجدان لتعيين الشيء الذي يجب أن يُعبد. لأن الوجدان عُرضة للخطأ، ومدعاة للضلال. وكثيراً ما يدفع الوجدان الإنسان لعبادة أشياء يجب أن تحطَّم، وكثيراً ما يدفع لتقديس أشياء يجب أن تُحتقر. فإذا تُرك الوجدان وحده يقرر ما يعبده الإنسان، أدى ذلك إلى الضلال في عبادة غير الخالق، أو إلى الخرافات في التقرب إلى الخالق بما يُبعِد عنه.
وذلك أن الوجدان إحساس غريزي، أو شعور داخلي، يظهر بوجود واقع محسوس يتجاوب معه، أو من تفكير بما يثير هذا الشعور. فإذا أحدث الإنسان رجعاً لهذا الشعور بمجرد وصوله دون تفكير، قد يؤدي ذلك إلى الضلال أو الخطأ.
فمثلاً: قد ترى في الليل شبحاً فتظنه عدواً لك؛ فتتحرك فيك غريزة البقاء في مظهر الخوف؛ فإذا استجبت لهذا الشعور، وأحدثتَ الرجع الذي يتطلبه وهو الهرب مثلاً، كان ذلك خطأ منك، لأنك قد تهرب من لا شيء! وقد تهرب من شيء لا تنفع فيه إلاّ المقاومة، فيكون رجعك الذي أحدثته خطأ. ولكن حين تستعمل عقلك، وتفكر في هذا الشعور الذي ظهر لديك قبل أن تُحدث الرجع الذي يتطلبه، يتبين لك ما هو الذي يجب أن تقوم به من الأعمال. فقد يتبين لك أن الشبح عامود كهرباء، أو شجرة، أو حيوان، وحينئذ يتبدد لديك الخوف وتظل سائراً. وقد يتبين لك أنه سبع لا تقوى على الركض أمامه، فتلجأ
|