غير صيغة الأمر. وحين يقول: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها) ) يأمر بزيارة القبور، إلاّ أن هذا الأمر أو هذا الطلب في هذين الحديثين مندوب، وليس بفرض. وكونه مندوباً آتٍ من قرائن أخرى، مثل سكوته صلى الله عليه وسلم عن جماعة صلوا منفردين، وسكوته عن أناس لم يزوروا القبور. فدل على أنه طلبٌ غير جازم. وحين يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من كان موسراً فلم ينكح فليس منا)، وحين نقرأ نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن التبتل، أي عن عدم الزواج في الحديث عن سُمرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التبتل)، نجد أن الرسول ينهى عن عدم الزواج للموسر في الحديث الأول وينهى عن عدم الزواج مطلقاً في الحديث الثاني، ولكن ليس معنى ذلك أن عدم الزواج للموسر حرام، وعدم الزواج مطلقاً حرام، بل هذا النهي يدل على أنه مكروه وليس بحرام. وكونه مكروهاً فقط آتٍ من قرائن أخرى، من مثل سكوته صلى الله عليه وسلم عن بعض الموسرين وهو يعرف أنهم لم يتزوجوا، وسكوته عن بعض الصحابة وهم لم يتزوجوا.
وحين يقول الله تعالى: (وإذا حللتم فاصطادوا) (فإذا قُضيَت الصلاة فانتشروا)، فإنه يأمر بالصيد بعد فك الإحرام، ويأمر بالانتشار بعد الصلاة، ولكن هذا الأمر لا يدل على أن الصيد بعد فك الإحرام فرض ولا مندوب، ولا على أن الانتشار بعد صلاة الجمعة فرض ولا مندوب، بل يدل على أنه مباح. وكون هذا مباحاً جاء من قرينة أخرى، وهو أن الله تعالى أمر بالصيد بعد الإحرام، وكان قد نهى عنه قبل الإحرام. وأمر بالانتشار بعد صلاة الجمعة، بعد أن كان نهى عنها عند صلاة الجمعة. فدلت تلك القرينة على أن هذا الأمر للإباحة، وأن الصيد في هذه الحالة، والانتشار في تلك الحالة مباح.
وعلى ذلك فإن معرفة نوع الحكم من النص، تتوقف على فهم النص فهماً تشريعياً، بربطه بالقرائن التي تدل على معنى الخطاب فيه. ومن هنا يتبين أن الأحكام الشرعية أنواع.
ويظهر مِن تتبّع جميع النصوص والأحكام أن الأحكام الشرعية خمسة هي: الفرض ومعناه الواجب، والحرام ومعناه المحظور، والمندوب، والمكروه، والمباح. لأن خطاب الشارع إما أن يكون طلباً للفعل أو طلباً للترك أو تخييراً بين الفعل والترك. والطلب إما أن يكون جازماً وغير جازم، فإن كان طلب الفعل جازماً فهو الفرض، وإن كان غير جازم فهو المندوب. وإن كان طلب الترك جازماً فهو الحرام، وإن كان غير جازم فهو المكروه. وطلب التخيير هو المباح.
ومن هنا كانت الأحكام الشرعية خمسة ليس غير هي: الفرض، والحرام، والمندوب، والمكروه, والمباح.
الرأي الذي يستنبطه المجتهد حكم شرعي
تأخذ عملية صرف المسلمين عن التقيد بالحكم الشرعي صنوفاً من الأساليب، ومن أخبث هذه الأساليب ما يزعمه أفراد من الناس من أن رأي الأئمة المجتهدين كالشافعي أو جعفر الصادق أو أبي حنيفة ليس حكماً شرعياً وإنّما هو رأي له ولا يَلزم التقيد به، ويدّعون أن الحكم الشرعي هو نص القرآن أو الحديث فقط. ويترتب على هذا حصر الأحكام الشرعية فيما ورد به النص صراحة، ويُفهم منه بمجرد القراءة. وعلى ذلك تبقى مشاكل عديدة متجددة، ومسائل مختلفة طارئة لم يَرِد بها نص شرعي، فلا يوجد لها حكم شرعي، وإنّما يسير فيها كلٌّ برأيه، ويتحكم فيها العقل فيضع الحل الذي يراه، والحكم الذي يوافق هواه. وهذا لعمر الحق إثم مبين، وافتراء على الشريعة الإسلامية، وتعطيل للاجتهاد، وصرف للناس عن أحكام الإسلام، لأن الكتاب والسنّة وهما مصدر الشريعة الإسلامية، قد جاءا خطوطاً عريضة، ومعاني عامة، وقد جاءت نصوصهما ألفاظاً تشريعية، تدل على واقع ووقائع، فتُفهم فهماً تشريعياً، ويؤخذ فيها بمنطوقها وهو المعنى الذي دل عليه اللفظ، وبمفهومها وهو المعنى الذي دل عليه معنى اللفظ، وباقتضائها وهو المعنى الذي يقتضيه المنطوق والمفهوم. وهذه الألفاظ لها معان لغوية، ومعان تشريعية، ولها نصوص أخرى من الكتاب والسنّة تخصصها في حالة العموم، وتقيدها في حالة الإطلاق، وقرائن تعيّن المعنى المراد منها، والحكم الذي تقتضيه في دلالة الأمر على الوجوب أو الندب أو الإباحة، ودلالة النهي على التحريم أو الكراهة، وكونها خاصة في حادثة أو عامة في كل شيء، إلى غير ذلك مما تحويه نصوص القرآن أو الحديث. ولذلك تُفهم فهماً تشريعياً، لا فهماً ظاهرياً، ولا فهماً منطقياً. ولذلك يحصل الاختلاف من فهم النص الواحد، فيُعطى فيه رأيان مختلفان أو متناقضان.
هذا من ناحية الفهم أي من ناحية دلالة اللفظ. علاوة على الاختلاف في ثبوت نص الحديث من حيث اعتباره وعدم اعتباره، فيحصل الخلاف أيضاً في اعتبار الحكم الذي يؤخذ منه، وعدم اعتباره. وينتج عن هذا كله اختلاف في الآراء: في كون المعنى الفلاني هو الحكم الشرعي، أو المعنى المخالف له أو المغاير له، وكلها يدل عليها النص الشرعي، فكلها حكم شرعي، مهما تعددت واختلفت أو تناقضت، لأن الحكم الشرعي هو "خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد". وخطاب الشارع الذي جاء به الوحي يحتاج إلى فهم من المخاطَب حتى يصبح حكماً شرعياً في حقه، لأن النص يحتاج إلى فهم حتى يصبح موضع عمل. فخطاب الشارع يصبح حكماً شرعياً حين يُفهم من مدلول النص بعد أن يثبُت النص أنه قرآن أو حديث. وقبل ثبوت النص وفهم دلالته لا يعتبر حكماً شرعياً. وعليه فالذي جعل النص خطاب شارع هو فهمه. فالحكم الشرعي هو الرأي الذي يؤخذ من النص، وهو الذي يعتبر خطاب الشارع. ومن هنا كان رأي المجتهد حكماً شرعياً ما دام يستند فيه إلى الكتاب والسنّة، أو إلى ما دل عليه الكتاب والسنّة من الأدلة الشرعية.
وعليه، فآراء المجتهدين السابقين من أصحاب المذاهب وغيرهم، أحكام شرعية، وآراء المجتهدين اليوم أحكام شرعية، وآراء المجتهدين في المستقبل في كل مكان وزمان أحكام شرعية، ما داموا قد استنبطوها باجتهاد صحيح، مستندين فيها إلى الأدلة الشرعية. وقد أقر النبي صلى الله عليه وآله وسلم اعتبار فهم النص هو الحكم الشرعي، وأقر الاختلاف فيه. فإنه على اثر ذهاب الأحزاب في غزوة الخندق أمر عليه السلام مؤذناً فأذّن في الناس (من كان سامعاً مطيعاً فلا يُصلينّ العصر إلاّ في بني قريظة)، ففَهِم بعضهم ترك صلاة العصر في المدينة، فلم يُصلّوا حتى وصلوا إلى بني قريظة، وفَهِم البعض الآخر أن المقصود هو الإسراع فصلّوا العصر وذهبوا إلى بني قريظة بعد أداء صلاة العصر، وقد عرضوا ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم فأقرّ الفهميْن واعتبرهما. وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يختلفون في فهم القرآن والحديث، ولهم في ذلك آراء مختلفة، وكل رأي من آرائهم حكم شرعي، وقد أجمعوا على أن الرأي الذي يفهمه أي مجتهد من النص حكم شرعي.
وعلى ذلك، فالسنّة وإجماع الصحابة يدلان على أن الرأي الذي يستنبطه أي مجتهد يعتبر حكماً شرعياً يجب التقيد به على مستنبِطه، وعلى كل من أقرّه على هذا الفهم، أو قلّده فيه.
الأصل في الأفعال التقيّد بأحكام الشرع
وليس الأصل فيها الإباحة ولا التحريم
المباح هو ما دل الدليل السمعي على خطاب الشارع بالتخيير فيه بين الفعل والترك من غير بدل، أو هو ما خُيِّر المرء فيه بين فعله وتركه شرعاً.
والإباحة من الأحكام الشرعية، فالمباح حكم شرعي. والحكم الشرعي يحتاج إلى دليل يدل عليه، فما لم يوجد دليل يدل عليه لا يكون حكماً شرعياً. فمعرفة كون حكم الله في الفعل مباحاً تحتاج إلى دليل شرعي. وعدم وجود الدليل الشرعي لا يدل على أن الفعل مباح، لأن عدم وجود الدليل لا يدل على وجود حكم الإباحة ولا على وجود أي حكم له، بل يدل على نفي وجود حكم له، ويدل على وجوب التماس الدليل لمعرفة حكم الله فيه حتى يحدد موقفه منه. ذلك أن معرفة حكم الشرع في الفعل فرضٌ على كل مكلف ليحدد موقفه من الفعل، هل يقوم به أو يتركه. فالإباحة خطاب الشارع بالتخيير بين الفعل والترك، فما لم يُعرف خطاب الشارع لا يُعرف الحكم الشرعي، وما لم يوجد خطاب الشارع بالإباحة لا يوجد حكم الإباحة، فإنه لا حكم لأفعال العقلاء قبل ورود الشرع. فيتوقف الحكم بكون الفعل مباحاً أو مندوباً أو فرضاً أو مكروهاً أو حراماً على ورود الدليل السمعي بهذه الأحكام. وبدون الدليل السمعي لا يمكن إعطاء الفعل حكماً من الأحكام. فلا يمكن أن نحكم بإباحة ولا حرمة ولا غيرهما من الأحكام الشرعية الخمسة إلاّ أن يقوم الدليل السمعي على ذلك.
وليس معنى هذا ترك طلب حكم الله بالفعل وتعطيل أحكام الشرع، أو ترك القيام بأعباء الحياة بحجة جهل الله فيها، فإن ذلك كله لا يجوز شرعاً، وإنّما يعني ذلك أن فعل الإنسان يحتاج إلى معرفة حكم الله فيه، وذلك يوجب طلب الأدلة الشرعية وتطبيقها على ذلك الفعل حتى يُعرف حكم الله في الفعل من كونه مباحاً أو حراماً أو فرضاً أو مكروهاً أو مندوباً. لأن مقياس الأعمال عند المسلم هو أوامر الله ونواهيه. وقد فرض الله على كل مسلم أن ينظر في كل عمل يأتيه أن يعرف قبل القيام بالفعل حكم الله فيه: هل هو حرام أو واجب أو مكروه أو مندوب أو مباح. فكل عمل لا بد أن يتعلق به حكم من الأحكام الخمسة المذكورة، فهو لا بد أن يكون إما واجباً أو حراماً أو مندوباً أو مكروهاً أو مباحاً. وكل عمل من الأعمال التي يقوم بها المسلم يجب أن يعلم حكم الله في هذا العمل قبل مباشرته له، لأن الله سيسأله عنه، قال تعالى: (فوربك لنسألنّهم أجمعين عما كانوا يعملون)، وقال: (وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلاّ كنا عليكم شهوداً إذ تُفيضون فيه)، ومعنى إخباره تعالى لعباده أنه شاهد على أعمالهم هو أنه محاسبهم عليها وسائلهم عنها.
|