عرض مشاركة مفردة
  #9  
قديم 14-05-2005, 01:58 PM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

وقد بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم وجوب أن يكون العمل وفق أحكام الإسلام، فقال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَدّ)، وما زال الصحابة رضوان الله عليهم يسألون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تصرفاتهم حتى يعرفوا حكم الله فيها قبل أن يفعلوها، فقد أخرج ابن المبارك (أن عثمان بن مظعون أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتأذن لي في الاختصاء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس منا من خصى أو اختصى، وإن اختصاء أمّتي الصيام. قال: يا رسول الله أتأذن لي في السياحة؟ قال: سياحة أمّتي الجهاد في سبيل الله. قال: يا رسول الله أتأذن لي في الترهب؟ قال: إن ترهّب أمّتي الجلوس في المساجد لانتظار الصلاة). فهذا صريح بأن الصحابة ما كانوا يُقدمون على عمل إلاّ سألوا عنه قبل الإقدام عليه لمعرفة حكم الله فيه. ولو كان الأصل في الأفعال الإباحة لفعلوه وما سألوا عنه، فإذا حرّمه الله تركوه وإلاّ استمروا على فعله ولا حاجة بهم إلى السؤال.
وأمّا سكوت الشارع عن أفعال لم يبيّن حكم الله فيها مع أن الناس كانوا يفعلونها، فليس معناه أن عدم إعطاء الشارع رأياً قولياً أو فعلياً دليل على إباحة الأفعال التي لم يبيّن فيها نص صريح قولي أو فعلي، بل معنى السكوت: أن الأفعال التي فُعلت أمام الرسول، أو كان يعلم أن الناس يفعلونها داخل سلطانه، دليل على إباحة هذه الأفعال فقط، لا على إباحة الأفعال مطلقاً، لأن سكوته عليه الصلاة والسلام على الأفعال، أي إقراره لها، دليل على إباحة هذه الأفعال. فالسكوت على الفعل يعتبر دليلاً على إباحته إذا كان ذلك مع العلم به بأنْ فُعل أمامه أو كان يعلم به. أمّا سكوته عن الفعل دون علمه به، أو عن الفعل الحاصل خارج سلطانه، وإن علم به، فلا يسمى سكوتاً باعتبار السكوت من الأدلة الشرعية.
والسكوت الذي هو الدليل على الإباحة، سكوت الرسول صلى الله عليه وسلم لا سكوت القرآن، لأن القرآن كلام الله، والله يعلم ما كان من الأفعال، وما يكون، وما هو كائن. فلا يعتبر عدم بيان القرآن حكم فعل أنه سكت عنه، بل المراد من السكوت عن الفعل هو سكوت الرسول صلى الله عليه وسلم عنه مع علمه به، أي أنه يُعمل العمل أمامه أو يُعمل داخل سلطانه على علم منه ويسكت عنه.
وقد استدل بعض الصحابة على جواز العزل بسكوت النبي صلى الله عليه وسلم عنه فقال: (كنا نعزل والقرآن ينزل)، أي ورسول الله بيننا، إذ قوله: (والقرآن ينزل) كناية عن وجود الرسول بينهم. واستدل بعض المجتهدين على جواز أكل لحم الضب بسكوت النبي عن أكله، فقد روي أنه (أُكل الضب على مائدة النبي ولم يأكل منه)، فسكوته عن الصحابة وهم يأكلوب الضب على مائدته دليل على إباحة أكله. فسكوت الشارع عن الفعل مع علمه به دليل على إباحته، وليس عدم بيان الشارع حكماً للفعل دليل على إباحته. وفرقٌ بين السكوت وبين عدم البيان، في الدلالة.
ومن ذلك كله يتبين أن الأصل في أفعال العباد هو أن لها حكماً شرعياً وجب طلبه من الأدلة الشرعية قبل القيام بالفعل، ويتوقف الحكم على الفعل بكونه مباحاً أو فرضاً أو مندوباً أو حراماً أو مكروهاً على معرفة الدليل السمعي على هذا الحكم من الكتاب أو السنّة أو الإجماع أو القياس.

الأصل في الأشياء الإباحة

الأشياء غير الأفعال. فالأشياء هي المواد التي يتصرف فيها الإنسان بأفعاله. وأمّا الأفعال فهي ما يقوم به الإنسان من تصرفات فعلية أو قولية لإشباع جوعاته.
والافعال لا بد أن تكون متعلقة بأشياء تُستعمل لتنفيذ الفعل الذي أراد الإنسان به الإشباع. فالأكل والشرب والمشي والوقوف وما شاكل ذلك، أفعال وتصرفات فعلية. والبيع والإجارة والوكالة والكفالة وما شاكل ذلك، أفعال وتصرفات قولية. وهذه الأفعال كلها، من تصرفات فعلية أو قولية، متعلقة بأشياء حتماً. فالأكل من حيث هو أكل، فعل، ولكنه متعلق بالخبز والتفاح ولحم الخنزير وغير ذلك. والشرب من حيث هو شرب، فعل، ولكنه متعلق بالماء والعسل والخمر وغير ذلك. فهذه الأشياء لا بد لها من حكم، كما أن الأفعال لا بد لها من حكم شرعي. فهل تأخذ الأشياء حكم الفعل المتعلق بها من حيث الوجوب أو الحرمة أو الندب أو الكراهة أو الإباحة، أو تأخذ حكماً آخر غير حكم الفعل؟ أم أنه لا حكم لها والحكم إنّما هو للفعل وحده؟
إن الذي يتبادر إلى الأذهان هو أن الأشياء والأفعال شيء واحد، فالفعل لا ينفصل عن الشيء، والشيء لا ينفصل عن الفعل إذا كان يراد أن يكون له اعتبار، وإذا انفصل أحدهما عن الآخر سقط عن الاعتبار. وبناء على ذلك يتبادر للذهن أيضاً أن حكم الفعل يكون سائراً على حكم الشيء المتعلق به الفعل. ولذلك لم يفرق العلماء في العصر الهابط بين الشيء والفعل، فقال بعضهم: الأصل في الأشياء الإباحة وجعلوها شاملة الأفعال والأشياء، وقال آخرون: الأصل في الأشياء التحريم وجعلوها شاملة للأفعال والأشياء.
والحقيقة أن هناك فرقاً بين الأفعال والأشياء في الشريعة الإسلامية. فإن المتتبع للنصوص الشرعية والأحكام الشرعية، يرى أن الشرع جعل الأحكام المتعلقة بالأفعال لا تخرج عن خمسة أحكام هي: الوجوب أو الحرمة أو الندب أو الكراهة أو الإباحة. وكل فعل لا يخرج عن كونه واجباً أو حراماً أو مندوباً أو مكروهاً أو مباحاً.
وعُرّف الحكم الشرعي بأنه خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد، فجُعل الحكم الشرعي للفعل بغض النظر عن الشيء الذي يتعلق به. فالحكم الشرعي إنّما هو للأفعال لا للأشياء. فأحل البيع من حيث هو بيع، فقال تعالى: (وأحل الله البيع).
أمّا الأشياء المتعلق بها البيع، فمنها ما أحله الله كالعنب، ومنها ما حرّمه الله كالخمر. فالحكم هو لفعل البيع، والتحريم هو لفعل الربا، بغض النظر عن الشيء المتعلق به الفعل. أمّا الأشياء، فإن المتتبع للنصوص الشرعية يرى أن الله أعطاها وصف الحِل أو الحرمة فقط، ولم يعطها حكم الوجوب أو الندب أو الكراهة. وجعل الحرمة أو الحِل وصفاً للشيء، قال تعالى: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً)، وقال: (ولا تقولوا لِما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام) (إنّما حرّم عليكم الميتة) (حرّمنا كل ذي ظفر) (ويحرّم عليكم الخبائث) (لِمَ تُحرّم ما أحلّ الله لك). فالنصوص كلها لم تجعل للشيء إلاّ أحد أمرين: إما أن يكون حلالاً وإما أن يكون حراماً ولا ثالث لهما، ولا يخرج عن أحدهما.
وهذا التحليل والتحريم هو من شأن الله وحده، ليس لأحد أن يشركه فيه، وكل من يعطي رأياً من عنده فهو آثم معتدٍ مفترٍ على الله. والحِل والحرمة وصفان لا مناص من لزوم أحدهما لكل ما خلق الله من شيء يمكن أن يقع عليه حس الإنسان، سواء ما يؤكل أو يُلبس أو يُركب أو يُسكن أو يُستعمل أو لا يُستعمل. وإذا تتبعنا النصوص الشرعية نجد أن الله تعالى أصّل في هذه الأشياء جميعها أصلاً وجعله الإباحة. فرخّص لنا أن ننتفع بكل ما كان بمتناول يد الإنسان واستثنى من ذلك العموم بعض الأشياء نص عليها بخصوصها فحرّمها.
وتلك الإباحة تُفهم من نصوص الشريعة إجمالاً وتعميماً. فنجد النصوص تُجمل الإباحة في مثل قوله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً)، وتعمّم مثل قوله تعالى: (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة)، ويُجمل ويُفصل في مثل قوله تعالى: (الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناءً وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم) (وسخّر لكم الفُلك لتجري في البحر بأمره وسخّر لكم الأنهار وسخّر لكم الشمس والقمر دائبيْن وسخّر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سآلتموه وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها) (ونزّلنا من السماء ماءً فأنبتنا به جنات وحبّ الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقاً للعباد) (قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) (إنّما حرّم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهِلّ به لغير الله) (لا أجد فيما أوحي إليّ محرَّماً على طاعم يطعمه إلاّ أن يكون ميتة أو دماً مسفوحا.. الآية).
فهذه الآيات تدل على أن الله أباح للإنسان جميع الأشياء، وأن ما حرّمه منها استثناه، ونص بخصوصه وحده. كما جاء الحديث فنص أيضاً على بعض الأشياء المحرّمة، فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلف من الطير.
فالشارع أباح الأشياء جميعها بمعنى أنه أحلّها، إذ الإباحة في الأشياء معناها الحلال، ضد الحرام. فإذا نص على حُرمة بعضها استثنى هذا البعض وحده. فالحِل والحرمة بالنسبة للأشياء وصفٌ لها، وليس للأشياء غيرهما أي وصف شرعي، ولا تحتاج إباحة الشيء، أي كونه حلالاً، إلى دليل، لأن الدليل العام في النصوص أباح جميع الأشياء. وأما حرمته فهي التي تحتاج إلى دليل لأنها مستثناة ومخصصة من عموم أدلة الإباحة فلا بد لها من نص. ولذلك كان الأصل في الأشياء الإباحة، أي الأصل فيها أن تكون حلالاً.

لا يجوز أن تتغير الأحكام بتغير الزمان والمكان

يسيطر على أذهان غالبية المسلمين في هذه الأيام اعتقاد مؤداه أن الإسلام مرن، وأنه يساير الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في كل زمان ومكان، وهو يتطور لينطبق في أحكامه على مقتضيات الأوضاع العصرية، ومتطلبات ما ألِفَه الناس واعتادوه في أيامنا هذه.
وهم يدّعون في سند دعواهم هذه بقاعدة يصفونها بأنها شرعية تقول: "لا يُنكَر تغير الأحكام بتغير الزمان"! وعلى أساس ذلك تجدهم يسايرون الواقع في سلوكهم، ويتكيفون بتصرفاتهم حسبما يقتضيه، فإن ذكّرتهم بأحكام