المنبطح، فيقبض ذاك رجليه عليها ويسحبه الفأر الآخر من ذنبه إلى وكرهما حتى يضعا البيضة فيه، ثم يرجعان للإتيان بغيرها على الوجه السابق. فهذه العملية معقدة، ولكنها نتجت عن تجارب في استعادة المحسوسات لا عن ربط المعلومات. وهذه التجارب لا تحصل إلاّ بما يحصل به الإشباع أو يتصل بما يحصل به الإشباع. فلا تحصل مسألة الفيران بغير ما يؤكل، لكن قد تحصل في غير البيض مما يحصل فيه إشباع. فهذا الذي حصل من الفأر والحصان، ويحصل من القرد والجَمَل وغيرها ليس تفكيراً وإنّما هو تمييز غريزي وهو خاص بما يشبع فقط ولا يتعدى التمييز. فلا يمكن أن يصل إلى معرفة ما هو هذا الشيء الذي أشبع، ولا ما هو الشيء الذي لا يحصل به إشباع. ومن هنا كان تمييزاً غريزياً وليس فكراً ولا عقلاً ولا إدراكاً.
ومثل الحيوان الطفل حين يولد، فإنه وإن كان دماغه فيه قابلية الربط فإنه لم توجد لديه معلومات حتى يربطها بالإحساس بالواقع الجديد ليميزه، ولذلك لا يحصل عنده فكر ولا عقل ولا إدراك، وإنّما يحصل عنده تمييز غريزي فقط للشيء من حيث كونه يشبِع أو لا يشبِع، ولا تجعل عنده معرفة عن حقيقة الشيء الذي ميّز الإشباع فيه. فهو لا يعرف ما هو الشيء الذي أشبع، ولا ما هو الشيء الذي لم يشبِع، وإنّما يحصل عنده تمييز في حدود أنه يشبِع أو لا يشبِع فقط. فإذا عرضتَ على طفل تفاحة وحجراً، جرّب أحدهما، فما يجد فيه الإشباع يأكله، ويرمي الآخر. فتحصل عنده من ذلك تجربة يستطيع بها أن يأخذ التفاحة ويرمي الحجر بتمييز غريزي حصل من التجربة فقط، وذلك لأن المعلومات لم توجد لديه بعد. فإذا وُجدت لديه المعلومات استعملها طبيعياً لأن الربط جزء من تكوين دماغه. فإحساسه بالشيء مرتبط بربطه بالمعلومات حتماً، فيكون وجود المفهوم عن الشيء مربوطاً ربطاً حتمياً بالإحساس به. فيبدأ حينئذ عند الطفل الفكر أو العقل أو الإدراك بمجرد وجود المعلومات التي يربط بها.
وعلى هذا فإن التمييز الغريزي هو إحساس بالواقع بواسطة الحواس، يحصل به تمييز الشيء من كونه يشبِع أو لا يشبِع، بخلاف الفكر، فإنه نقل الواقع بواسطة الحواس إلى الدماغ ومعلومات تفسِّر هذا الواقع. فالفكر حكم على شيء، والتمييز الغريزي تبيان أن الشيء يشبِع أو لا يشبِع، ليس غير.
الخـوف
الخوف مظهر من مظاهر غريزة البقاء، وهو حتمي الوجود في الإنسان لأنه جزء من تكوينه، ووُجد فيه فطرةً مع وجوده. إلاّ أنه كباقي مظاهر غريزة البقاء كالسيادة والدفاع والرحمة وغيرها، بل كباقي الغرائز وهي التدين والنوع، لا يظهر إلاّ بوجود عامل يثيره، وما لم يوجد هذا العامل المثير لا يظهر الخوف مطلقاً. والعامل الذي يثير الخوف هو الذي يثير أي غريزة من الغرائز، وهو إما شيء مادي محسوس، وإما فكر من الأفكار المتصلة به، أو المتعلقة فيه. إلاّ أنه لا بد أن يكون هذا الشيء المادي أو الفكر مما يدرَك أنه يخيف أو مما يشعر وجدانياً أنه يخيف. وما لم يحصل هذا الإدراك أو هذا الشعور لا يحصل الخوف، لأن الغريزة لا تتحرك طاقتها ولا تثور إلاّ إذا كان الشيء قد ارتبطت فيه مشاعر الخوف بإدراك أو بتمييز غريزي. وعلى هذا لا يحصل إلاّ بوجود ما يثيره، وإن كان فطرياً قد خُلق مع خلق الإنسان.
والخوف مشكلة من المشكلات الخطرة التي تعاني من جرائها الشعوب المنحطة والأمم الضعيفة ما تعاني من الذل والتأخر. والخوف إذا سيطر على شخص أفقده لذة العيش، وأفقده أنبل الصفات، وجعل لديه الارتباك الذهني وعدم القدرة على الحكم على الأشياء، وشلّ عنده الحافظة وقابلية التمييز.
وأخطر أنواع الخوف الخوف من الأوهام والأشباح. وهذا لا يكون إلاّ عند ضعاف العقول، إما لأن نمو العقل عندهم لم يكتمل بعد كالأطفال، أو لعدم وجود المعلومات الكافية للربط بالواقع كالجَهَلة وكل من تنقصه معلومات بحكم حياته في المجتمع كمعظم النساء، وإما لضعف فطري في أدمغتهم مثل البُله والمعتوهين ومن شابههم. وهؤلاء يعالَج الخوف لديهم إما بالتعمق معهم في البحث وتقريب الأشياء لإدراكهم، وإما بإعطائهم أفكاراً متصلة بما يخافون منه على أن يكون لهذه الأفكار واقع محسوس لديهم، فإنهم بهذا العلاج يتخلصون من سيطرة الخوف إما بإزالته أو بتخفيفه تدريجياً إلى أن تُقلع بقايا مفاهيمه الموجودة في الأعماق.
وهناك نوع من الخوف أقل خطراً من خوف الأوهام، وهو الخوف الناتج عن عدم تقدير الأشياء تقديراً صحيحاً. وذلك أن يرى الإنسان شيئاً ربما كان مخيفاً وربما كان غير مخيف. فقد يرى كلباً نائماً فيظنه كلباً مكلوباً (مسعوراً) لأنه سبق أن رأى مثله كلباً مسعوراً، فيخاف من أن يمر بالطريق ويهرب منه، ولو تحقق لرأى أنه كلب أليف لا يخيف، وهو نائم لا يشعر بمروره. وقد يرى أسداً في قفص فيخاف أن يقرب من القفص لئلا يخرج إليه الأسد، وقد يزمجر الأسد فيزداد خوفه ويهرب ظناً منه أنه قد يخرج من القفص، وهكذا. وأكثر ما يحصل عدم التقدير في الأشياء المعنوية من كتابة مقال أو خطبة في مكان أو محادثة حاكم أو مناقشة صاحب جاه، وما شاكل ذلك، فإن عدم تقدير الأشياء تقديراً صحيحاً يسبب له الخوف فيمتنع عن الكتابة أو الخطابة أو المناقشة خوفاً من الأذى.
وهناك نوع من الخوف شائع ناتج عن عدم الموازنة بين ما ينتُج من القيام بالعمل وما ينتج من عدم القيام به، وكلاهما يسبب أذى فيؤدي الخطأ في هذه الموازنة إلى الخوف من بسائط الأمور والوقوع في المخاطر، وذلك كالخوف من الحاكم الظالم أن يوقع الأذى بالفرد يؤدي إلى إيقاع الأذى بالأمّة وبه نفسه كواحد من الأمّة. وكخوف الجندي في ساحة القتال من الموت يؤدي إلى إبادة الجيش كله وهو واحد منه، وكالخوف من السجن في سبيل العقيدة التي يحملها يؤدي إلى ضياع العقيدة منه، وهو أكثر ألماً من السجن أو إضاعة العقيدة من الوجود في الحياة. وهذا الخوف خطر جداً على الأمّة ويؤدي إلى المخاطر بل ربما أدى إلى الدمار والهلاك.
إلاّ أن الخوف نافع ومفيد في بعض الأحيان، ولا بد من وجوده أو من إيجاده، كما هو مضر ومهلك في بعض الأحيان ولا يجوز أن يوجد ويجب أن يعالَج ويُزال. فالخوف من الأخطار الحقيقية أمر مفيد، وهو واجب، والاستهتار بها وعدم الخوف منها أمر مضر ولا يجوز أن يكون، سواء أكانت أخطاراً على الفرد نفسه أو على أمّته. فالخوف في هذه الحالة هو الحارس وهو الحامي، ولذلك كان لا بد من شرح الأخطار المحدقة بالأمّة حتى تحسب لها حساباً وتعمل للدفاع عن نفسها وإزالة هذه الأخطار. والخوف من الله ومن عذاب الله أمر مفيد وواجب وهو الحارس والحامي، ولذلك كان لا بد من إثارة الخوف من الله في النفوس، وشرح مقدار عذاب الله على ارتكاب المعاصي وعلى الكفر حتى يتبع الناس دينه ويقوموا بأوامره ويجتنبوا نواهيه. فهذا الخوف ومثله نافع ومفيد ويجب أن يوجد وأن يُعمل على إيجاده لأنه هو الحارس والحامي، وهو الذي يضمن سير الإنسان في الصراط المستقيم.
وعلى ذلك فإن الخوف جزء من فطرة الإنسان، والمفاهيم هي التي تثيره في الإنسان وهي التي تبعده عن الإنسان، وهو من أخطر الأمور على الإنسان في نواحٍ كما أنه من أكثرها فائدة في نواحٍ أخرى، فحتى يتقي الإنسان أخطاره ويتمتع بمنافعه وجب عليه أن يحكّم به المفاهيم الصادقة وحدها، ألا وهي مفاهيم الإسلام.
الواقع والمفهوم هو الذي يثير الغرائز
تختلف الغريزة عن الحاجة العضوية، وإن كانت كل منهما طاقة حيوية فطرية. إذ الحاجة العضوية تتطلب الإشباع الحتمي وإذا لم تُشبَع يموت الإنسان، بخلاف الغريزة فإنها تتطلب الإشباع فقط وإذا لم تُشبَع يقلق، ولكنه لا يموت بل يبقى حياً. فالإنسان إذا لم يأكل أو يقضي حاجته يموت، ولكنه إذا لم يُشبِع غريزته لا يموت. فإذا لم يجتمع مع النساء اجتماعاً جنسياً أو لم يُصلّ لا يموت لأن الغريزة لا تتطلب الإشباع الحتمي. وأيضاً فإن الحاجة العضوية تتحرك للإشباع داخلياً من ذاتها وتُثار للإشباع خارجياً من خارجها، بخلاف الغريزة فإنها لا تتحرك داخلياً مطلقاً ولا يحصل الشعور بالحاجة للإشباع إلاّ بمؤثر خارجي، فإذا وُجد ما يثيرها من الخارج ثارت ووُجد الشعور الذي يتطلب الإشباع، وإذا لم يوجد شيء من الخارج يثيرها تبقى كامنة ولا يوجد أي شعور بالإشباع. فالجوع يأتي من الداخل طبيعياً ولا يحتاج وجوده إلى أي مؤثر خارجي، فيوجد الشعور الذي يتطلب الإشباع للحاجة العضوية من نفس الإنسان، فيحس بالجوع ولو لم يحصل أي شيء من الخارج. أمّا المؤثر الخارجي فإنه قد يحرك الجوع، فقد يثير الطعام الشهي شعور الجوع، وقد يثير الحديث عن الطعام الشهي شعور الجوع. أمّا الشعور الجنسي فلا يثور من نفسه مطلقاً وإنّما يحتاج تحركه إلى ما يثيره من الخارج، فلا يثور الشعور الذي يتطلب الإشباع للغريزة من نفس الإنسان مطقاً ولا يحس به الإنسان ما لم يحصل عامل خارجي يثيره، فلا توجد الرغبة في الاجتماع الجنسي ولا يوجد أي شعور بذلك إلاّ إذا رأى الإنسان واقعاً محسوساً يثير هذا الشعور، أو تحدّث إنسان أمامه عما يثير هذا الشعور من الوقائع، أو تداعت لديه معاني فوُجدت مفاهيم تثير هذا الشعور. وما لم يوجد الواقع المحسوس أو الفكر لا يمكن أن يثار هذا الشعور.
|