عرض مشاركة مفردة
  #17  
قديم 14-05-2005, 02:20 PM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

كان مخلوقاً لها لحصل كما تريد دون الخضوع لنسبة معينة، أي لنظام معين، فكان مخلوقاً لغيرها وهو الله، وليس لها. ولذلك كان القضاء والقدر قد أدرك العقل مباشرة واقعهما بواسطة الحس قطعاً، فآمن بهما وصار لهما واقع في الذهن وواقع محسوس. فكانت مفاهيم لأنها معاني أفكار، ذلك أن لها واقعاً موجوداً في الذهن. وعلى ذلك فالعقيدة الإسلامية كلها مفاهيم قطعية الوجود، قطعية الدلالة، لها واقع في ذهن المسلم يحس به، أو يحس بما يدل عليه. وبهذا يكون لها التأثير الفعال عليه.
وأمّا الأحكام الشرعية فإنها معالَجات لواقع، ويتحتم فيها دراسة الواقع وفهمه، ودراسة حكم الله في هذا الواقع بفهم النصوص الشرعية المتعلقة به، ثم تطبيق هذا الفهم عليه لإدراك ما إذا كان هو حكم الله فيه أم لا. فإن كان منطبقاً عليه في نظر المجتهد كان ذلك الفهم حكم الله في حقه، وإن لم يكن منطبقاً عليه بحث عن فهم غيره، أو نص غيره حتى يجد فهماً لنص منطبقاً على الواقع، وهكذا. وبهذا تكون الأحكام الشرعية مفهوماً لها واقع في الذهن، لأنها علاج محسوس، لواقع محسوس، فُهم من نص محسوس، فهي مفاهيم.
وعلى هذا فإن العقيدة الإسلامية، والأحكام الشرعية ليست معلومات للحفظ، ولا أفكار مجردة للمتعة العقلية، وإنّما هي مفاهيم دافعة للعمل، وجاعلة سلوك الإنسان متقيداً بها، متكيفاً بحسبها. ومن هنا كان الإسلام كله مفاهيم تسيِّر الإنسان، وليست مجرد معلومات.

الشخصيـة

الشخصية في كل إنسان تتألف من عقليته ونفسيته، ولا دخل لشكله ولا جسمه ولا هندامه ولا غير ذلك، فكلها قشور، ومن السطحية أن يظن أحد أنها عامل من عوامل الشخصية أو تؤثر على الشخصية، ذلك أن الإنسان يتميز بعقله، وسلوكه هو الذي يدل على ارتفاعه أو انخفاضه، وبما أن سلوك الإنسان في الحياة إنما هو بحسب مفاهيمه فيكون سلوكه مرتبطاً بمفاهيمه ارتباطاً حتمياً لا ينفصل عنها. والسلوك هو أعمال الإنسان التي يقوم بها لإشباع غرائزه أو حاجاته العضوية، فهو سائر بحسب الميول الموجودة عنده للإشباع سيراً حتمياً، وعلى ذلك تكون مفاهيمه وميوله هي قوام شخصيته، أمّا ما هي هذه المفاهيم ومم تتكون وما هي نتائجها، وما هي هذه الميول وما الذي يُحدثها، وما هو أثرها، فذلك يحتاج إلى بيان.
المفاهيم هي معاني الأفكار لا معاني الألفاظ، فاللفظ كلام دلّ على معانٍ قد تكون موجودة في الواقع وقد لا تكون موجودة، فالشاعر حين يقول:
ومن الرجال إذا أنبريت لهدمهم هرم غليظ مناكب الصفاح
فإذا رميت الحق في أجلاده ترك الصراع مضعضع الألواح
فإن هذا المعنى موجود في الواقع، ومدرَك حساً، وإن كان إدراكه يحتاج إلى عمق واستنارة. ولكن الشاعر حين يقول:
قالوا أينظم فارسين بطعنة يوم النزال ولا يراه جليلا
فأجبتهم لو كان طول قناته ميلاً إذن نَظْم الفوارس ميلا
فهذا المعنى غير موجود مطلقاً. فلم ينظم الممدوح فارسين بطعنة، ولا سأل أحد هذا السؤال، ولا يمكن أن ينظم الفوارس ميلا. فهذه المعاني للجمل تشرح وتفسر ألفاظها.
أمّا معنى الفكر، فهو أنه إذا كان لهذا المعنى الذي تضمنه اللفظ واقع يقع عليه الحس أو يتصوره الذهن كشيء محسوس، كان هذا المعنى مفهوماً عند من يحسه ويتصوره، ولا يكون مفهوماً عند من لا يحسه ولا يتصوره، وإن كان فهم هذا المعنى من الجملة التي قيلت له أو التي قرأها. ومن هنا كان من المحتم على الشخص أن يتلقى الكلام تلقياً فكرياً سواء قرأه أو سمعه. أي أن يفهم معاني الجمل كما تدل عليه من حيث هي، لا كما يريدها لافظها أو يريدها هو أن تكون. وأن يدرك في نفس الوقت واقع هذه المعاني في ذهنه إدراكاً يشخِّص له هذا الواقع، حتى تصبح هذه المعاني مفاهيماً. فالمفاهيم هي المعاني المدرَك لها واقع في الذهن، سواء أكان واقعاً محسوساً في الخارج أم واقعاً مسلَّماً به أنه موجود في الخارج، تسليماً مبنياً على واقع محسوس. وما عدا ذلك من معاني الألفاظ والجمل لا يسمى مفهوماً، وإنما هو مجرد معلومات.
وتتكون هذه المفاهيم من ربط الواقع بالمعلومات، أو من ربط المعلومات بالواقع، ويتبلور هذا التكوين حسب القاعدة أو القواعد التي يجري عليها قياس المعلومات، والواقع حين الربط. أي حسب عقله للواقع والمعلومات حين الربط، أي حسب إدراكه لها. فتوجَد بذلك للشخص عقلية تفهم الألفاظ والجمل، وتدرك المعاني بواقعها المشخَّص، وتصدر حكمها عليه. وعلى ذلك فالعقلية هي الكيفية التي يجري عليها عقلُ الشيء، أي إدراكه. وبعبارة أخرى هي الكيفية التي يُربط فيها الواقع بالمعلومات، أو المعلومات بالواقع بقياسها إلى قاعدة واحدة أو قواعد معينة. ومن هنا يأتي اختلاف العقليات كالعقلية الإسلامية، والعقلية الشيوعية، والعقلية الرأسمالية، والعقلية الفوضوية، والعقلية الرتيبة.
أمّا نتائج هذه المفاهيم فإنها هي التي تعيِّن سلوك الإنسان نحو الواقع المدرَك، وتعيِّن له نوع المَيْل لهذا الواقع من الإقبال عليه أو الإعراض عنه، وقد تجعل له مَيلاً خاصاً وذوقاً معيّناً.
أمّا الميول، فهي الدوافع التي تدفع الإنسان للإشباع مربوطة بالمفاهيم الموجودة لديه عن الأشياء التي يراد منها أن تشبِع. وتُحدِثُها عند الإنسان الطاقة الحيوية التي تدفعه لإشباع غرائزه وحاجاته العضوية، والربط الجاري بين هذه الطاقة وبين المفاهيم.
وهذه الميول وحدها، أي الدوافع مربوطة بالمفاهيم عن الحياة، هي التي تكوّن نفسية الإنسان. فالنفسية هي الكيفية التي يجري عليها إشباع الغرائز والحاجات العضوية. وبعبارة أخرى هي الكيفية التي تُربط فيها دوافع الإشباع بالمفاهيم. فهي مزيج من الارتباط الحتمي الذي يجري طبيعياً في داخل الإنسان بين دوافعه والمفاهيم الموجودة لديه عن الأشياء مربوطة بمفاهيمه عن الحياة.
ومن هذه العقلية والنفسية تتكون الشخصية. فالعقل أو الإدراك وإن كان مفطوراً مع الإنسان، ووجوده حتمي لدى كل إنسان، ولكن تكوين العقلية يجري بفعل الإنسان. والميول وإن كانت مفطورة عند الإنسان، ووجودها حتمي لدى كل إنسان، ولكن تكوين النفسية يجري بفعل الإنسان.
وبما أن وجود قواعد أو قاعدة يجري عليها قياس المعلومات والواقع حين الربط هو الذي يبلور المعنى فيصبح مفهوماً، وبما أن الامتزاج الذي يحصل بين الدوافع والمفاهيم هو الذي يبلور الدافع فيصبح مَيلاً، كان للقاعدة أو القواعد التي يقيس عليها الإنسان المعلومات والواقع حين الربط الأثر الأكبر في تكوين العقلية وتكوين النفسية، أي الأثر الأكبر في تكوين الشخصية تكويناً معيناً. فإن كانت هذه القاعدة أو القواعد التي يجري عليها تكوين العقلية هي نفس القاعدة أو القواعد التي يجري عليها تكوين النفسية، وُجدت عند الإنسان شخصية متميزة بلون خاص. وإن كانت القاعدة أو القواعد التي يجري عليها تكوين العقلية غير القاعدة أو القواعد التي يجري عليها تكوين النفسية كانت عقلية الإنسان غير نفسيته، لأنه يكون حينئذ يقيس ميوله على قاعدة أو قواعد موجودة في الأعماق، فيربط دوافعه بمفاهيم غير المفاهيم التي تكونت بها عقليته، فيصبح شخصية ليس لها مميز، مختلفة متباينة، أفكاره غير ميوله، لأنه يفهم الألفاظ والجمل ويدرك الوقائع على وجه يختلف عن ميله للأشياء.