معنى التقديس
التقديس هو منتهى الاحترام القلبي، ويحصل من الإنسان للأشخاص والاشياء إما بناء على دافع مشاعري مقرون بمفاهيم غريزية، وإما بدافع فكري مقرون بمشاعر حرّكها نفس الفكر الدافع. فتقديس الأصنام وتقديس الأبطال الخرافيين يحصل بدافع مشاعري مقرون بمفاهيم غريزية عن الآلهة وعن العظمة. وأمّا تقديس الله بعبادته أو بالخضوع والتسليم لأحكامه يحصل بدافع إدراك العقل أن الله وحده مستحق للعبادة أو بإدراك العقل أن هذه الأحكام من الله تعالى فهي واجبة التسليم وواجب الخضوع لها. وفي كلتا الحالتين يكون هذا الدافع مقروناً بمشاعر غريزة التدين وهي الإحساس بالعجز والاحتياج إلى الخالق المدبر.
والتقديس أمر فطري وهو رَجْع لغريزة التدين، وله مظاهر متعددة، أعلاها العبادة بأنواعها ومنها الخضوع والخشوع والتذلل كما أن منها الإكبار والإجلال.
والمشاعر تهتز لهذا التقديس اهتزازاً يقوى ويضعف بحسب المفاهيم المربوطة بالمشاعر لأنها هي التي تعيّن كيفية التقديس ومتى يكون التقديس ومتى لا يكون. ولذلك تحصل المغالطة في صرف التقديس عن أشياء لأشياء أخرى، كما تحصل المغالطة في تقديس الخالق إلى تقديس المخلوقات، وقد تحصل المغالطة في كيفيات التقديس، فيعتبِر أن قيامه بتقبيل القرآن هو تقديسه، ولو فعل أو قال في نفس الوقت ما يناقض هذا التقديس كأن يمس القرآن وهو غير متوضئ، أو يقول إن القرآن أصبح لا يصلح لهذا العصر. فهو قد قدّس القرآن بتقبيله ولو خالف ما نص عليه صراحة وهو قوله: (لا يمسه إلاّ المُطّهَّرون)، أو كفر به صراحة بقوله إنه لا يصلح.
ومن هنا كان بالإمكان سلب التقديس عن أشياء إما لغيرها أو بالإيهام أن العمل الفلاني وحده تقديس لها والعمل الآخر ليس تقديساً ولا شأن له بالتقديس ولا يناقضه. وهذا السلب يحصل بواسطة المغالطات عن طريق تغيير المفاهيم، وهذا سهل ميسور وفي متناول الناس جمعياً أن يفعلوه مع من ينشأ تقديسهم بدافع مشاعرهم، لأنه سهل أن يغير المفاهيم المربوطة بهذه المشاعر، لأنها غالباً ما تكون مفاهيم غريزية أو مفاهيم تسليمية سهلٌ قلعها. أمّا التقديس الناجم عن دافع الفكر المقرون بمشاعر حركها نفس الفكر فإنه يصعب سلب التقديس وإن كان ممكناً لذوي القدرة على التلاعب بالأفكار والجمل، ولكنه يلاقي مقاومة عنيفة قبل أن يحصل فيه التغيير. ولهذا كان لا بد أن يحصل التقديس عن دافع فكري مقرون بمشاعر حتى يكون تقديساً ثابتاً وحتى يؤمن خطؤه وضلاله.
والتقديس من حيث هو عند المسلم كالعقيدة يجب أن تصدر عن عقل هو بطبيعته ناجم عن دافع العقيدة، وهي عقيدة عقلية، ولذلك كان لا بد من التثبت ممن يقدس ومما يقدس، غير أنه إذا ثبت أنه واجب التقديس تحتّم تقديسه ويصبح حينئذ معنى تقديسه عدم قبول المناقشة فيه بعدما ثبتت صحة تقديسه إلاّ في حالة إرادة إقناع الغير بتقديسه. لأن معنى إعادة المناقشة والبحث فيه بعد ثبوت صحة التقديس تنافي التقديس، كما أن إعادة المناقشة والبحث في العقيدة بعد ثبوت العقيدة ينافي كونها عقيدة، بل يجب أن تنتقل العقيدة من فلسفة إلى بديهيات، والتقديس من دافع فكري وبحث عقلي إلى بديهية وخضوع، وإلاّ فلا يمكن أن تتركز عقيدة عند شخص دائم المناقشة فيها، ولا القداسة لشيء تدوم المناقشة في تقديسه.
والمسلمون أدركوا عقلياً أن تقديس الله هو عبادته وهو طاعة أوامره واجتناب نواهيه والخضوع والتسليم لما جاء في كلامه بالقرآن الكريم. وأدركوا عقلياً أن تقديس النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو تعظيمه وتبجيله في جميع الحالات، في كل شيء من شؤون الحياة، وهو الخضوع والتسليم المطلق لما جاء في الصحيح من حديثه باعتباره وحياً من الله. فكان تقديس القرآن والحديث بدافع فكري مقرون بمشاعر حرّكها نفس الفكر. ولذلك لا بد من تقديسهما ولا بد أن يتحول هذا التقديس لهما إلى بديهة من البديهات لا تقبل مناقشة ولا تدخل تحت البحث بين من تم عندهم ثبوت التقديس. فإذا حاول أحد صرف التقديس عن الحديث إلى القرآن وحده كان كفراً، أو حاول تصوير تقديس القرآن بتقبيله والاعتقاد بعدم صلاحيته لهذا العصر كان كفراً أيضاً، بل لا بد أن يكون التقديس تعظيماً وخضوعاً واستسلاماً شاملاً عاماً وأن لا يقبل البحث والمناقشة إلاّ في حالة الإقناع بأصل التقديس.
وعلى هذا فالإنسان من حيث هو مفطور على التقديس ولا يمكن أن يُزال منه التقديس وإن كان يمكن أن يُكبت ويحوَّل. والمسلمون وقد عَيّنت لهم عقيدتهم العقلية من يقدّسون والأشياء التي يجب أن يقدّسوها، فهم كناس من بني البشر مفطورون على التقديس، وكمسلمين عيَّن لهم العقل المقدسات وكيفية تقديسها، لا يستطيعون أن يتركوا التقديس لأنه جزء من تكوين خلقتهم، ولا يجوز لهم أن يتركوا تقديس المقدسات التي فرض الإسلام عليهم تقديسها لأنه من مقتضيات إسلامهم. ولكن أعداء الإسلام جاءوا عن طريق المغالطات يسلبون التقديس عن أشياء أمر الإسلام بتقديسها ويغيّرون معنى تقديس الأشياء التي عجزوا عن سلب التقديس عنها، فكان لزاماً على الواعين أن يجعلوا التقديس عند المسلمين ناجماً عن دافع العقيدة الإسلامية عقلياً وأن يحوّلوا هذا التقديس إلى بديهيات حتى يصبح كل مسلم قادراً لأن يكون على ثغرة من ثُغَر الإسلام فلا يُؤتَيَنّ مِن قِبله.
عصمة الرسول
عصمة الأنبياء والرسل مسألة يحتّمها العقل، لأنه كونه نبياً أو رسولاً يحتّم أنه معصوم في التبليغ عن الله، إذ لو تطرق الخلل إلى إمكانية عدم العصمة في مسألة واحدة لَتطرّق الخلل إلى كل مسألة، وحينئذ تنهار النبوة والرسالة كلها. فثبوت أن الشخص نبي الله أو رسول من عند الله تعني أنه معصوم فيما يبلّغه عن الله. فعصمته في التبليغ حتمية والكفر بها كفر بالرسالة التي جاء بها وبالنبوة التي بُعث بها.
أمّا عصمته عن الأفعال المخالِفة لأوامر الله ونواهيه، فالمقطوع به أنه معصوم عن الكبائر حتماً فلا يفعل كبيرة من الكبائر مطلقاً، لأن فعل الكبيرة يعني ارتكاب المعصية، والطاعة لا تتجزأ والمعصية لا تتجزأ، فإذا تطرقت المعصية إلى الفعل تطرقت إلى التبليغ، وهي تناقِض الرسالة والنبوة، ولذلك كان الأنبياء والرسل معصومين من الكبائر كما هم معصومون بالتبليغ عن الله.
أمّا العصمة عن الصغائر فإنه قد اختلف العلماء فيها، فمنهم من قال إنهم غير معصومين عنها لأنها ليست معصية، ومنهم من قال إنهم معصومون لأنها معصية. والحق أن كل ما كان القيام به حراماً وما كان القيام به واجباً، أي جميع الفروض والمحرمات هم معصومون بالنسبة لها، معصومون عن ترك الواجبات وعن فعل المحرمات سواء أكانت كبائر أم صغائر، أي معصومون عن كل ما يسمى معصية ويصدق عليه أنه معصية، وما عدا ذلك مما هو خلاف الأوْلى فهم غير معصومين عنها، فيجوز عليهم فعل خلاف الأوْلى مطلقاً لأنه في جميع وجوهه لا يدخل تحت مفهوم كلمة معصية. هذا ما يحتمه العقل ويقتضيه كونهم أنبياء ورسل.
وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبي ورسول فهو كباقي الأنبياء والرسل معصوم عن الخطأ فيما يبلغه عن الله تعالى عصمة قطعية دل عليها الدليل العقلي والشرعي. وما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبلّغ الأحكام إلاّ عن وحي، قال تعالى في سورة الأنبياء: (قل إنّما أنذركم بالوحي) أي قل لهم
|